
شهدت العاصمة السودانية الخرطوم، في الربع الأول من عام 2025، تحولًا مفصليًا في مجريات الحرب التي اندلعت قبل نحو عامين بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع. لم يكن التقدّم العسكري مجرّد استعادة لأحياءٍ وأبنية، بل لحظة فاصلة في معركة الدولة ضد واقع فرضه السلاح خارج الشرعية.
بدأت المعركة على الخرطوم منذ أبريل 2023، حين تمكّن الدعم السريع من التمركز في مواقع استراتيجية وسط العاصمة، مستغلًا عامل المفاجأة وانهيار التنسيق المؤسسي للدولة. إلا أن الجيش، الذي خسر الجولة الأولى ميدانيًا، تحوّل سريعًا إلى خطة بديلة: امتصاص الصدمة، ثم التقدّم المتدرج وفق استراتيجية تطويق واستنزاف امتدت على مدى شهور.
مع بداية عام 2025، كانت ملامح الحسم قد بدأت في الظهور. هجمات منسقة انطلقت من أم درمان وشرق النيل، مدعومة بالرصد الجوي والطيران المسيّر، مكّنت القوات المسلحة من تقطيع أوصال انتشار الدعم السريع في قلب العاصمة. ما تبع ذلك لم يكن مجرد انتصار عسكري، بل استعادة لرمزية الدولة ومركز القرار.
لكن المعركة لم تكن ميدانية فقط. بالتوازي مع العمليات العسكرية، دارت حرب إعلامية حاول فيها الدعم السريع تصوير نفسه كقوة مسيطرة، عبر مقاطع دعائية مكثفة. في المقابل، اعتمد الجيش خطابًا رسميًا متماسكًا يرتكز على مفاهيم الدولة، النظام، والسيادة. ومع كل يوم تقدُّم، تراجعت صورة “التفوّق” المزعوم للمتمردين، وتقدّم الجيش على جبهة الوعي الشعبي.
رغم التقدّم، لم تختفِ التهديدات. فمع فقدان الدعم السريع مواقعه الأرضية، لجأ إلى تكتيك جديد: هجمات متفرقة بطائرات مسيّرة صغيرة. هذا النمط غير المركزي، الذي بات يُعرف في السياق السوداني بـ”الذئاب المنفردة”، يستهدف مراكز لوجستية أو مواقع عسكرية حساسة، دون اشتباك مباشر. هدفه واضح: إرباك المشهد، وكسر الإحساس بالاستقرار. وهو ما يضع الجيش أمام تحدٍّ مختلف يتطلب تطوير قدرات الرصد والتنسيق الاستخباراتي.
وكما في تجارب النزاعات الحديثة من أوكرانيا إلى اليمن، أصبحت المسيّرات اليوم جزءًا من ترسانة الحرب غير المتماثلة. استخدامها في السودان يُشير إلى تحوّل نوعي في عقلية التمرد من المواجهة المباشرة إلى التخريب التكتيكي عبر أدوات منخفضة الكلفة وعالية التأثير، ما يعقّد مهمة الردع التقليدي، ويُدخل الصراع في مرحلة أكثر تداخلًا بين الأمني والتقني.
في المقابل، بدأت ملامح الحياة تعود تدريجيًا إلى بعض أحياء العاصمة المحررة. في أطراف بحري وشرق النيل، أعيد تشغيل الكهرباء في بعض المربعات، وعادت بسطات الشاي للظهور في الساحات، ولو بخجل. ورغم أن أصوات الطلقات لا تزال تُسمع من حين لآخر، فإن الحركة في الشوارع لم تعد مشهدًا نادرًا كما في الأشهر السابقة. الخرطوم تتنفس ببطء – لكن بحذر.
إقليميًا، حملت استعادة الخرطوم رسائل قوية: السودان لا يُدار من خارج مؤسسات الدولة. كما تفاعل المجتمع الدولي مع الحدث بحذر. ففي 4 مارس 2025، أصدر مجلس الأمن بيانًا اعتبر أن “عودة العاصمة إلى سيطرة الدولة تفتح بابًا حقيقيًا لمسار سياسي شامل، يجب البناء عليه لا تعطيله”.
مع ذلك، فإن التحدي الحقيقي لا يكمن في الانتصار بحد ذاته، بل فيما بعده. السودان يواجه فراغًا سياسيًا، وقوى مدنية فقدت قدرتها على التأثير، مما يضع الجيش أمام لحظة حساسة: هل يتقدّم كمؤسسة ضامنة للانتقال، أم يقع في فخ عسكرة الدولة من جديد؟
ما يحتاجه السودان اليوم ليس فقط ضبط الأمن، بل إعادة إنتاج شرعية تستند إلى سيادة القانون، الشفافية، والعدالة. اللحظة الحالية فرصة – لكنها ليست ضمانة. فالانتصارات الميدانية تُهدر إذا لم تُترجم إلى بناء مؤسسات حقيقية.
الخرطوم، التي سقطت رمزيًا في بداية الحرب، عادت الآن إلى حضن الدولة. لكن استعادتها الكاملة تتطلب ما هو أعمق من السيطرة: تتطلب مشروعًا. والسؤال يبقى مفتوحًا: هل يكتب السودان فصلًا جديدًا في تاريخه، أم يعيد تدوير الفشل بشكل جديد
وبينما يُنظر إلى استعادة الخرطوم كلحظة فاصلة، تتجه أعين المراقبين نحو دارفور. ورغم التعقيدات السياسية والقبلية في الإقليم، إلا أن التقديرات تشير إلى أن المعركة هناك قد تكون أقل تعقيدًا، خاصة إذا تمكنت القوات المسلحة من السيطرة على أول مدينة استراتيجية في الإقليم. تلك الخطوة قد تؤثر بشكل معنوي على مقاتلي الدعم السريع وعلى البيئة الاجتماعية المحيطة، التي بدأت تندم على وجود المليشيا.
* كبير الباحثين ومدير برنامج شرق افريقيا والسودان في فوكس
* باحث في اداره الازمات ومكافحه الارهاب