الرأي والتحليل

محمد طلب يكتب: الرجوع والعودة في الأغاني السودانية (10-10)

(لي متين قاعدين لي أن متين؟؟؟)
آثرت أن يعتمد المقال الأخير من هذه السلسلة وسابقه على نصوص غنائية جديدة من واقع معاناة أهل السودان وتعكس مدى أشواقهم للعودة لوطنهم وبيوتهم المخربة والمنهوبة وكل الآلام التي شهدوها خلال نزوحهم بعد طردهم من بيوتهم وقتل من قاوم أو تم أسره وتعذيبه بصورة بشعة ثم موت الكثيرون من الحسرة على فقد أبناءهم و أحبابهم أو حتى مفارقة الديار.
قاعدين لمتين قاعدين؟؟ عبارة عن تساؤل حائر يحمل في مجمله غرض الاستفهام.. واستفسار منطقي وعقلاني يحمل آهات المظلومين من نازحين ولاجئين مشردين، سؤال مشحون بكم هائل من البؤس والضياع في هذه الحرب و مفاد السؤال إلى متى نظل على هذا الحال والشكوي؟؟!!
ذكرني أغنية نوبية للفنان محمد منير تقول في مقطع منها:-
قدمت شكوتي لحاكم الخرطوم
آجل جلستي لمّا القيامة تقوم
نعم يبدو أن شكوانا سوف يُجاب عليها (يوم القيامة العصر) و يبدو السؤل حائراً و كأنه لا إجابة له البتة لأنه بمخاطبته العواطف و الدعوة للبكاء والحسرة على أحوالنا فتكون عقولنا متوقفة مؤقتاً و في حال سبات عميق لا تستطع الإجابة لأنها لحظات للتفاعل العاطفي مع هذا النص الغنائي الحزين المنتشر هذه الأيام وعند سماع النص تجد به تون يشبه (اللولاي) وهو نغم و أهزوجة ترددها الأمهات استجداءً لنوم الأطفال في أحوال البكاء أو الجوع وضيق ذات اليد وغيرها فكأن المغنية في هذا النص تتبع ذات النهج و التون في دعوة ورجاء لوقف الحرب و طلب الراحة و النوم بإرتياح
والإجابة على سؤال لي متين قاعدين؟؟؟
في غاية البساطة و هو :-
(إلى أن تتوقف الحرب)
وجملة الكلام في هذا النص وفكرته هي (لا للحرب)
نعم.. أنه نص حزين جداً يحمل رسالة خفية بين سطوره وفي صوت المغنية الحزين و الآهات في تكرار السؤال لمتين قاعدين؟؟.
البارحة و في ليلة كئيبة لا تختلف عن كل ليالي الكأبة التي مررنا بها في هذه الحرب و أثناء تجوالي بين الوسائط التي أضحت الصاحب والأنيس في مهاجرنا القسرية وأثناء تجوالي بين أزقة الميديا المظلمة التي تحمل أخبار الموت والدمار وتفوح منها رائحة البارود و لون الدم والقيح و القبح .
فأزقة الميديا رائحتها طاردة خبث وخبائث دس ودسائس رأيت أن أخرج إلى براحات الميديا و رياضها الغناء فالميديا كريمة و لا تبخل تجد فيها هذا و ذاك وكل ما تريد و لها أثر على الناس حيث يمكن أن تكون مصدرا للراحة والتعزية و في ذات الوقت يمكن أن تكون مصدرا للألم والضيق كما أنها قد تروج للشائعات وقد تخلق بعص الفتن وفي زمن الذكاء الصناعي أصبحت دروب الحقيقة في غاية الوعورة.
أثناء تجوالي هنا و هناك أبحث عن عزاء في مجال الفنون لعلمي بدورها العظيم في التعبير عن المشاعر والآمال في ظل الأزمات وقع بصري على فيديو غنائي حزين، أم باكية حزينة و رأس ابنها على حجرها وهي تردد:-
لي متين قاعدين لي متين
لي متين بنقول راجعين لي متين؟؟
سنة كاملة كمان تمت شهرين
توقفت هنا و قلت لنفسي لكنها الآن (السنة الثالثة) ليتها لم تذكر هذا المقطع يبدو أن حزنها بدأ باكراً ولم تتوقع أن المدة المذكورة يمكن أن تتضاعف فأضحت تبحث عن طريق (العودة) الذي لا تعرفه، وقتها تذكرت أحد خلق الله من أقاربي الذين عفا الله عنهم ورفع التكليف اعتاد و لسبب غير معلوم لنا أن لا يكون طريق الرجوع عنده ذات طريق الخروج ولا يعود في أوبته بذات الطريق الذي سلكه في الذهاب.
فوجدت نفسي أبحث عن نص مكتوب لهذه الأغنية كي أعرف من شاعرها لكني حتى كتابة هذه السطور لم أتوصل لمقصدي كي أواصل حديثي حول هذه الأغنية الحزينة وربما نعود أو لا نعود للنص فأغنياتنا لم تترك (حزناً قديماً) أو (حزناً نبيلاً) إلا وطرقته، و ليت كل تلك الأحزان تكون كما قال عنها جان جاك روسو:-
(الحزن حالة نفسية تتيح للوعي الفرصة للتأمل في النفس والمجتمع)
من خلال التحليل لنص أغنية (لمتين قاعدين) يمكن القول أنه يعبر عن معاناة الشعب السوداني في ظل الحرب العبثية ويعكس الرغبة في وقف الحرب واستعادة السلام ويظل سؤال النص الحائر(لمتين قاعدين)؟؟ يطرحه الكثيرون والحرب في عامها الثالث الآن.
أمر العودة وموضوعها في الغناء طويل جداً و معقد للغاية وقد يحمل التناقض باختلاف زوايا الرؤية و العلل المنظورة والخفية فقد تغنت فيروز بــ (أجراس العود) فكتب نزار قباني برؤية معارضة عن (موانع العودة) وكتب البرغوثي وآخرون لنزار وفيروز عن (العودة) و ما يقف حائلاً دونها، وكان ذلك أيضاً هو موضوع هذه المقالات.
الأمر الغريب أننا إلى هذه اللحظة لم نعرف أهداف هذه الحرب وهل الأهداف تحققت أم بعدها (كي نعود) مثلما عاد الحبيب المنتظر في أغنية صلاح مصطفى.
(عوداً حميداً مستطاب)
و بمناسبة (وضوح الأهداف) أختم هذه المقالات بطُرفة حقيقية حدثت معنا أيام الاغتراب.
في ليلة جمعة من جمع بيوت العزابة قررنا الذهاب لعزاء أحد الأصدقاء في وفاة والده عندما علمنا بعودته من السودان وكان معنا صديق من محبي الطعام بدرجة الشراهة مع حبه لإعداد (الحلة) واستمتاعه بذلك (رجل اكول) وبما أن مكان صديقنا العائد من عزاء والده يبعد عنا كثيراً (سفر عديل) والدنيا ليل اتصلنا على صديق آخر أقرب كثيراً إلى مقصدنا وقلنا له سوف نبيت عندك ونذهب للعزاء بعد ذلك المهم وصلنا منزل هذا الصديق فوجدنا العشاء (مدنكل) وأصناف لا تُحسب غير مقبلات ما قبل وحلويات ما بعد العشاء وفي ساعة متأخرة توجهنا نحو مراقدنا فنمنا جيداً وعندما استيقظنا جميعاً تم توجيهنا للسفرة فوجدنا العصائر والشاي والفطور (المدنكل) بأصناف عديدة مما لذ و طاب والحلو المستطاب وبعد أن فطرنا واردنا الاستعداد للذهاب للعزاء والتخمة قد أصابت صاحبنا (الأكول) فقال مبتسماً وهو يمرر يده على كرشه المنتفخة:- الآن ممكن نقول الرحلة حققت أهدافها أنتو أمشوا وأنا بنتظركم هنا، لأني لو تحركت بعد الأكل سوف اتعب جداً، ضحكنا وتركناه ممدداً بلا طاقة للنهوض، وذهبنا نحن نحو (هدفنا الأصل) وسبب تحركنا كل هذه المسافة .
أظن أن حال صديقنا (الآكول) تشبه ذات حال من أشعلوا هذه الحرب و الآن ينتظرون عودتنا.

هشام احمد المصطفي(ابوهيام ) رئيس التحرير

من أبرز المنصات الإلكترونية المخصصة لنقل الأخبار وتقديم المحتوى الإعلامي المتنوع والشامل. تهدف هذه المنصة إلى توفير الأخبار الدقيقة والموثوقة للقراء في جميع أنحاء العالم العربي من خلال استخدام التكنولوجيا الحديثة والأساليب المبتكرة في عرض الأخبار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى