
تطرقنا في المقالين السابقين تحت ذات العنوان لعدة جوانب ربما لا تكون ذات علاقة مباشرة بأغنية فنان الطمبور (عبد الرحيم ارقي) لكنها تتلمس الأجواء المحيطة بالحالة السودانية في تلك الفترة، نحيل القارئ الكريم للمقالات السابقة للربط بين أطراف الموضوع..
الأغنية وقصيدتها أخذت الطابع القصصي والقراءة الاسترجاعية للأحداث من (يا دوب صغير) ثم الوصول للتبريرات المرتبطة بها لإدراك الغاية والغرض من النص وسوف نعود لذلك تفصيلاً بمقالات قادمة ضمن هذه السلسلة.
أيضاً سوف نستعرض فلسفة الابوة والامومة و واجباتهما الشرعية والاجتماعية نحو الأبناء .
حيث أن الأغنية مثار الحديث جعلت الابن المخاطب (صفراً) كبيراً و أن وجوده ليس لذاته منه نصيب بل هو أصلاً يفترض وجوده فقط لإسعاد (الأم ) ولا مجال لتحقيق غاية ذاتية لا ترضي تلك الأم :-
كيف يهون لك تحزن أمك عشان تحقق ليك غاية
و بغض عن ماهية الغاية فهي تستنكر عليه تحقيق غاياته وصناعة مستقبله بسفر و هجرة سوف تحزنها فتقول :-
ماني عارفي سبب رحيلك يا وليدي الحكاية
إلا تبقى براك شايف في فراق الوالدة غاية
(تقول ماني عارفة) رغم أنها تعرف أسباب هجرته وسفره وتدركها تماماً إلا أن الشاعر عمد على اخفاء الأسباب بغرض تضخيم الغرض من القصيدة ويصبح هو محورها أي (الغرض منها).
ثم تدلف الأغنية علي لسان (الأم) للمثل الشعبي القائل (قلبي علي جناي وقلب جناي عليّ حجر) فتقول الأغنية على لسانها :-
ما بعاتبك وما بلومك لو رحلت بلقى في الأمثال عزايا
عليّ حجر دائماً قليبك وقليبي كلو عليك جنايا
رغم أن المغني أخفق بقوله (على حجر) دون تشديد الياء (أي أن قلبه على أمه حجر) إلا أنه وصل للغرض بطريقة خبيثة و استدرار عواطف المستمع ليكون مع الغرض دون اعمال العقل لأنه نص يخاطب العواطف فقط ويعلم قدرته على الاستجابة.
وهنا يطرأ سؤالا حول ما أورده الشاعر حافظ إبراهيم.. هل تم إعداد هذه (الأم) كي تحرص على مستقبل ابنها لأجله وليس لأجلها هي و تكريس الانانية وحب الذات، وسوف نعود لذلك لاحقاً.
الملاحظ في الأغنية أنها لم تتطرق اطلاقاً لــ(غاية الولد) وجعلتها مجهولة كي تخدم غرض القصيدة و قد تكون غايته عظيمة تعود عليه وعلى والدته وعلى المجتمع بالخير.
سبق أن كتبت لكم في مقالات سابقة عن الأغنيات الغرامية السودانية وكم الانانية وحب الذات الذي تحتويه و سقنا كثيرا من الأمثلة..
وفي هذه الأغنية موضوع حديثنا قد يخضع (وليدها) لرغباتها و(اسعادها) كما قالت الشاعرة نضال الحاج في أمر مشابه و بطريقة عكسية من البنت في خطاب والدها:-
ﻭﻻ ﺗﻬﺘﻢ ﻳﺎ ﻳﺎﺑﺎ
ﻭﻻ ﻳﻬﻤﻚ ﻛﺘﻴﺮ ﻳﺎﺑﺎ
ﺑﻨﺎﻛﻠﻬﺎ ﻛﺴﺮﺓ ﺑﻲ ﻣﻮﻳﺔ
ﻭﺑﻨﺤﻤﺪ ﺭﺑﻨﺎ ﺍﻟﺠﺎﺑﺔ
ﻭﻫﻲ ﺫﺍﺗﺔ ﻛﺘﻴﺮﺓ ﺃﺻﻼً ﺟﺎﺕ
ﺫﺍﺍﺍﺗﻮ ﻛﺘﻴﺮﺓ ﺃﺻﻼً ﺟﺎﺕ
ﻗﺒﻴﻠﻲ ﻭﻻ ﺣﻠﻤﻨﺎﺑﺎ
ﻭﻣﺎ ﺩﺍﻡ ﺍﻟﻌﻴﺶ ﻓﻲ ﻣﺎ ﺑﻨﺠﻮﻉ ﻭﺩﻱ ﺍﻟﻤﻘﺴﻮﻣﺔ ﻧﺮﺿﺎﺑﺎ
ﻭ ﺳﻌﺎﺩ ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺟﻤﺒﻚ ﺟﺮﻋﺔ ﺍﻟﻤﻮﻳﺔ ﻧﻬﻨﺎﺑﺎ
فــ(البنية) هنا خاضعة وتسعد بوجودها قرب والدها.. وهنا يجب ملاحظة التيار السائد وقتها و أحسب أن المراد به خلق تيار (معين) وهو الخضوع لرغبة الوالدين بغض النظر عن ماهية هذه الرغبة لجيل المستقبل القادم وقصيدة لنضال حسن الحاج طويلة وبعيدة عن (صناعة التغيير) لحياة أفضل ودعوة للانغلاق ربما نعود لها في مقالات أخرى، لكن نلاحظ في القصيدتين الخطاب بين الذكر والانثى بغض النظر عن المقام (أم تبعث الرسالة لولدها كي يرضى و يرضيها و بنت توصل الرسالة لوالدها بأنها رضيانة فما يزعل).
والرسالة في الحالتين واحدة
و من خلال الغوص في نصوص تلك الفترة تبدو لي وكأنه نصوص تدعو للانغلاق والابتعاد عن أي (تغيير) ومما يبرهن هذا الأمر أن تلك النصوص وجدت باباً واسعاً في الإعلام وخلقت نجوماً مما يرجح أنها ربما تكون نصوصا مصنوعة لأغراض معينة، طبعاً ذلك لا ينفي مواهب وقدرات أولئك المبدعين بقدر ما يوضح أنها قدرات تم توجيهها في مضمار معين .
ولحين العودة نختم بأبيات من قصيدة (العلم والأخلاق) لشاعر النيل حافظ إبراهيم و التي اشتهر منها فقط (الأم مدرسة)
لا تحسبن المال ينفع وحده ما لم يتوج ربه بخلاق
كم عالم مد العلوم حبائلاً لوقيعة وقطيعة وفراق
و فقيه قوم ظل يرصد فقهه لمكيدة أو مستحل طلاق
يمشي وقد نصبت عليه عمامة كالبرج لكن فوق تل نفاق
يدعونه عند الشقاق وما دروا ان الذي يدعون خدن شقاق
واحسب أن كل الشقاق الدائر الان سببه تلك العمائم .
ونعود،،،



