
يسألني صديقي صلاح أبروف الماسك على جمر الترغيب بالعودة إلى أم درمان وأبروف تحديداً، يا عبد الكريم أنطباعك شنو !؟؟ فكانت الإجابة دون أن أشعر، (توجد هنا حياة)، إبتسم إبتسامة المنتصر فالحياة عند صلاح ابروف لها معان ومعان.
في التاسع عشر من يناير الماضي عندما رحلت عزيزة منديل، ملهمة الشعراء وسيدة نساء أم درمان (ظبية المسالمة) حسبتُ أن برحيلها إنطوت صفحة من صفحات التاريخ الناصع لتلك المدينة الحالمة، فالمدينة المُغتصبة تفقد أجمل لاجئاتها، ربما لم تستطع أن تبتعد عن ام درمان حالها كحال الشعراء والمبدعين في بعدهم عن الوطن.
هنا أم درمان ،،،!!
سمعتها وأنا أتلمس دُخولها من الاتجاه الجنوبي (كرري) هما عامان من الحنين، وتباريح الحرب، بعيداً كالقمر وحيداً كالفنار، متقلباً بين الحاضر والمستقبل في بورتسودان عاصمة النوارس، تبدو أم درمان موحشة، الأشجار والشوارع فهي مدينة عجيبة ربما ليست وحشة الحرب فقط، فهي لا تستطيع العيش دون إنسان أم درمان، معالم المدينة بدأت تخبو، تنفستُ بعمقٍ ووقفتُ في وسط الشارع أحتضنُ أم درمان فهي تستقبلني عريساً في يوم زفافه، هي محبوبتي وعشقي وتأريخي طفولتي وعُنفواني تفاصيلُ كُل شئٍ قابعة في هذا المكان الطاهر.
مقابر أحمد شرفي.. كم مرة زرت مقابر أحمد شرفي والبكري هما مدخل أم درمان القديمة من الجهة الجنوبية ود نوباوي وحي العمدة أشتم روائح مختلفة معقدةً جداً أميز الأشياء روائحها في مدينة بها عبق عجيب (السوق الجديد، إستاد ود نوباوي، فول احمد سعد وبرعي والهجرة والجان واب صليب والنقر ، الجيلي العجلاتي، حريقة، أسماعيل الطّهار، كمال وديع، حديقة العمدة، بيت الأقاشي، ميدان الرابطة، جامع الشيخ قريب الله الطاحونة، انقلو، القسم الشمالي، المركز الصحي، ابو جبة، أولاد الصادق واللقيمات وحمري وبخيتة، وخواجة بتاع الكارو، زبادي الحبشي، حبوبة سنتر، أزيار عوض الله الجاك، طعمية طلعت، ساريا وماريا مدرسة الهجرة، بوت الميكانيكي، جمال فرانسيس، عمر بيرقر، جورجينا، الطيب سيد مكي وجامع الامين عبد الرحمن، ميدان الزهور والسرة ست الكسرة، النوراني، فسيخ الطرابيشي، عبد المجيد بتاع التلفزيونات) كلُ ذلك في شارعين او ثلاثة فقط.
مر شريط ذكريات طويلاً إلى بيتنا كان الطريق صعباً فالدمار يحيط بالمنطقة إحاطة السوار بالمعصم كل شئٍ ضاع لا معالم ولا سكان، موحشة غريبة لا تُرى لها سوى بعض اللافتات المدمرة والتروس.
تذكرتُ أغاني الحنين ومرارة التهجير تلك الأغنيات التي كنا نرددها دون وعي منا، كل أشعار وأغنيات الحنين استدعتها الذاكرة الٱن في بث مباشر، ما بين بقيت في الدنيا متغرب بعيد عن جنة أم درمان.. ويا طير يا ماشي لي أهلنا مروراً بحنيني إليك وليل الغربة أضناني، ونهايةً ببين اليقظة والأحلام ويا ريت النوم يزورني اليوم أبيت لو ليلة في أم درمان.
يا زول ما تصور، يقطع ذلك النحيب صوت مستَنفر صغير الحجم، صغير السن، قليل التجربة يحمل سلاحاً وذخيرة ويتحدث وهو ينظر في عينيك مباشرة ده تردد، ويبدأ سجال المزايدات جاي منو وتابع لشنو !؟؟
منزلنا .. حاله يُغني عن السؤال، ليس أفضل من غيره بالمسالمة والركابية وود نوباوي وشارع كرري، ذلك الشارع الذي يمثل معقل الزحمة، خصوصاً في أواخر شهر رمضان. ليس هنالك شبر دون إصابة الرصاص في كل مكان تشتم رائحة الموت والبارود وترى ثقوب في كل مكان ربما قضت إرادة الحرب أن تتوسم أم درمان، (غايتو شلخوها مطارق) فأم درمان مختلفة دائماً حتى في احتضانها للمعارك كانت أولى المُدن تحريراً وأكثر مدينة تدعي الآمان، ربما لا يوجد آمانٌ حقيقي بفعل التدوين العشوائي، ولكن أم درمان ترسم الآمان تعايشاً وروحاً وطعم ولوناً ورائحة وحياة.
وربما لم يعُد في هذه المدينة الموحشة ما يستدعي القلق رغم قلة زوارها، إلا أن أم درمان تملك روحاً ضاجة بالحياة والمحبة والترحاب، إنها مدينة حية، قادرة على احتواء الجميع، مضيافة، نقية ، تُظهر لك كل شيئاً حتى عيوبها، وأنت تعلم أنك ستعطيها كل الأعذار وستدخل في شرايينها وتغوص في بحورها، وتعيش فيها كما تريد دون أن يزعجك أحد ولا حتى المدينة نفسها.
الصورة
أحدث صورة لدار الرياضة أم درمان.
ويا دار الرياضة هللي واستبشري واستقبلي فالعود أحمد.