
المداولات الجارية في “واشنطون” ليست مفاوضات حول “السلام في السودان” كما يُسوّق لها، بل هي تفاوض على المصالح الأمريكية داخل الجغرافيا السودانية، وإعادة توزيع لأوراق النفوذ في منطقة أصبحت عقدة بين الأمن الإقليمي، والتنافس الدولي، ومسارات الطاقة والذهب والموانئ.
الولايات المتحدة تدير الملف السوداني وفق مبدأ “البراغماتية الاستراتيجية”ومن ثم، فإنّ مليشيا “الدعم السريع” لم تكن يوماً طرفاً أصيلاً في المعادلة الأمريكية، بل أداة ضغط مؤقتة، قبل أن تفقد جدواها مع الهزائم العسكرية المتتالية وانحسار مناطق سيطرتها.
الفاشر تقترب من أن تعود إلى حضن الجيش، والبيئة الاجتماعية التي تغذّت على فكرة “الدعم السريع” بدأت بالتمرد على القتال، حتى النُظار والزعامات القبلية مثل ناظر “الرزيقات” بدأوا بالتنصّل من عباءة آل دقلو، بعدما أصبحت المليشيا عبئاً أخلاقياً وسياسياً.
إنّ الضغط المجتمعي الناتج عن انتهاكات الحرب وجرائمها جعل من هذه المليشيات نموذجاً سيئ السمعة حتى لدى حلفائها الإقليميين، فإنّ الأداة التي تفقد قدرتها على تحقيق الغرض الاستراتيجي تتحول إلى عبءٍ وجب التخلص منه.
وهكذا، تبدو واشنطن مهيّأة للتخلّص التدريجي من ورقة “الدعم السريع”، لتعيد توجيه بوصلتها نحو ترتيبات أكثر قابلية للاستقرار، وأكثر تماسكاً أمام المتغيرات الإقليمية.
أما داخلياً، فإنّ حكومة “كامل إدريس”، ستكون أولى ضحايا الاتفاق الامريكي-السوداني القادم، إذ لن تكون قادرة على تمثيل مرحلة ما بعد الحرب. وكذلك “الحركات المسلحة” التي تشارك في السلطة عبر “اتفاق جوبا”.
المشهد يتجه نحو حكومة تكنوقراط جديدة، تشارك فيها شخصيات من دارفور لا بوصفها ممثلي “حركات مسلحة”، بل بوصفها كوادر مدنية تسعى لإعادة دمج الإقليم في الفضاء الوطني.
وبحسب ما يُتداول في الكواليس، فإن الخطة الأمريكية تستهدف تشكيل حكومة مدنية، تنفيذية يشرف عليها الفريق أول “عبدالفتاح البرهان” بصورة مباشرة، ليكون هو المرجعية السياسية والعسكرية الوحيدة خلال الفترة الانتقالية المقبلة،هذه الخطوة، تعني نهاية مرحلة التعدد الرمزي داخل رأس الدولة، باحالة “جنرالات مجلس السيادة” إلى التقاعد.
وفي المقابل، تحالفات ” صمود” و”تأسيس” خارج النسق الأمريكي تماماً، الولايات المتحدة لم تذكرها يوماً في أجندتها الرسمية، ما يعني أنّها لا تراها شريكاً ذا وزن في صياغة الترتيبات المقبلة.
التجاهل الامريكي لمجموعات “صمود” و”تأسيس” فتح الباب أمام تصدعات داخلها، إذ تستعد بعض الأحزاب للانخراط في الحوار السوداني الوطني بصفة منفردة، وفق شروط داخلية محضة لا إملاءات خارجية.
وفي هذا السياق، انعقدت الاسبوع الماضي في “بورتسودان” ورش سياسية مكثفة، بإشراف عضو مجلس السيادة “شمس الدين كباشي”، هدفها بلورة رؤية وطنية موحدة تجمع بين العسكريين وحلفائهم المدنيين، وتعيد هندسة العلاقة بين السلطة وحلفاءها السياسيين.
وفي خضم هذه التحركات، تبدي بعض الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا تذمّرها من تجاهلها في المباحثات الأمريكية – السودانية، معتبرة ذلك تجاوزاً لحقوق الشراكة السياسية التي نصّ عليها الاتفاق.
فهي ترى أن تجاوزها في هذه المرحلة الحساسة يعني عملياً إعادة تعريف الشراكة من جديد، وتحويلها إلى دوائر ضيقة من النفوذ والمصالح، وهو ما قد يفتح الباب لتوترات جديدة بين مكونات السلطة الانتقالية.
من المقرر أن يلتقي اليوم السبت الرئيس عبدالفتاح البرهان بعدد من حلفائه السياسيين، ويُنتظر أن يشكل هذا اللقاء منعطفاً سياسياً مهماً يعيد ترتيب أولويات المرحلة المقبلة ويمنح التحالف المدني – العسكري الجديد ملامحه النهائية قبل الدخول في أي تفاوض دولي أو تسوية برعاية إقليمية.
محبتي واحترامي



