
عدت اليوم إلى ولاية الجزيرة وحاضرتها مدني.. رحلة طويلة من مدينة بورتسودان.. هيا.. عطبرة.. شندي.. الخرطوم.. الحصاحيصا.. ثم مدني.. ولهذه (اللّفة الطويلة) أسباب نحكيها لاحقاً ..
من حدود ولاية نهر النيل جنوباً مروراً بالطريق الدائري ومنطقة شرق النيل ثم الحصاحيصا وحتى مدخل مدينة مدني لا يملك الإنسان إلا أن يتأمل في حكمة الله العلي القدير من بسط الحرب وفضح الجنجويد ثم طي كل صور المأساة الحزينة بطرد المليشيات من كل هذه البقاع الطاهرة وما ظنوا أنهم خارجون منها بعد أن عاثوا فيها فساداً بقتل الأبرياء ونهب ممتلكاتهم وترويع الآمنين وطردهم من مراتع صباهم.
كنت قد زرت مدني عقب تحريرها من دنس التمرد بأيام.. كانت المدينة يومها حزينة وكئيبة.. وقفت عند منطقة كوبري البوليس.. مئات الجثث بعضها فوق.. للموت رهبة ورائحة لا تُطاق.. اليوم شاهدت من بعيد موقع دفن تلك الجثث.. هربت عصابات المليشيا تاركةً وراءها قتلاها.. بلا أسماء.. بلا عناوين.. هلكي غررت بهم قوافل الموت التي ضلت طريقها إلى جحيم الحرب ضد الجيش والشعب السوداني .
في يوم تلك الزيارة كان كل مكان في مدني يبدو كئيباً.. حتى المدن لا تتصالح نفسياً مع مغتصبيها والمعتدين .
اليوم هالني ما رأيت.. ها هي مدني تتعافى.. قلت لمرافقي الأخ الودود والإعلامي المتميز السر القصاص: ها هي مدني تعود لألقها القديم وبعضٍ من ضلالها !! .. قال لي: هي حال كل مدن وعواصم الدنيا تتعايش مع الألق والضلال!!.. لم نجد وقتاً لتكييف وتقعيد هذا النقاش.. كنا علي موعد مع والي ولاية الجزيرة.. اليوم بدأنا الحوار مع الأستاذ الطاهر إبراهيم الخير والي الجزيرة من داخل مكتبه بمقر أمانة الحكومة التاريخي بشارع النيل.. داخل مقر الحكومة العتيق دبّت الحياة من جديد.. يتوزع الموظفون مهامهم بين نشاط بإيقاع العمل التنفيذي.. وخمول الموظفيين الحكوميين القاتل.. والجزيرة ليست وحدها !!
عادت الحياة إلى مقر أمانة الحكومة.. وفود قادمة.. ووفود تنتظر.. ذات الصور والمشاهد في داويين الحكومة.
طرحت سؤالاً مهماً في مفتتح حواري مع الوالي حول هموم وقضايا الجزيرة وأسئلة مواطنيها الساخنة.. خيوط إجابة وحل السؤال تتقاطع بين بورتسودان وغرفة القيادة والسيطرة.. سنعود لمواصلة الحوار فأهل الجزيرة لا يقبلون بأنصاف الأسئلة ونصف الإجابات !!
من أهم مظاهر التعافي في ولاية الجزيرة عامة وحاضرتها مدني خاصة ما يحدث داخل مرافق القطاع الصحي.. وقفنا بصحبة والي الولاية عند ثلاث محطات.. المحطة الأولى كانت مركز الجزيرة لمناظير الجهاز الهضمي.. أقول وبالصدق كله هذه أول مرة أشاهد فيها مرفقاً صحياً متكاملاً تم تجهيزه وفقاً لأفضل المواصفات العالمية.. هذا المرفق الصحي مصدر فخر لكل أهل السودان.. هنا عادت أنامل الأطباء الأوفياء لتحسس آلام المرضى ورسمت على وجوههم إبتسامة الصحة والعافية.. حكاية هذا المستشفى نحكيها غداً فهي من القصص والحكايات الغريبة في كتاب وزارة الصحة بالسودان .
المحطة الثانية كانت مستشفى النساء والولادة بقلب مدني.. في هذا المكان تجد كل ولاية الجزيرة.. هنا يخرج كل يوم مئات القادمين الجدد إلى الحياة.. كل تناقضات الصحة وإدارة العمل العام تجدها داخل مستشفى الولادة بمدني.. قلت لوالي الولاية: عودة الفوضي والصخب إلى مستشفى الولادة تعني عودة الحياة إلى كل قرى الجزيرة !
داخل مستشفى جراحة الأطفال بمدني أكثر من قصة وحكاية.. ويكفي أن الصغار يبتسمون لأن العافية سترتسم على وجوهم البريئة بمبضع الجراحة.. وفي بعض الجراحة تمام العافية ..
ومن مدني سيتصل الحديث..