
قصة قصيرة
في قرية صغيرة من قرى النيل الأزرق، حيث تختلط بساطة الإيمان بعادات الناس وموروثاتهم، يمكن لحركة صغيرة كأن يلبس الرجل لبساً مختلفاً على غير ما اعتاد عليه الناس إلى المسجد أن تفتح باباً واسعاً للأسئلة عن جوهر الدين و حدود الشكل، والعلاقة بين مظهر العبادة وجوهرها وأين يبدأ الإخلاص وأين ينتهي العُرف ومظاهره.. حتي و إن كان اللبس له رمزية عالية تحتاج التأمل…
كان صباحاً جميلاً وهادئاً، والشمس لم تزل تمسح أشجار النيم الظليلة بيدٍ دافئة، حين خرجت من بيتي متجهاً نحو (مسجد البر) في أطراف القرية لصلاة الجمعة الجامعة للذين آمنوا.
لكنني في ذلك اليوم لم أرتد جلبابي الأبيض اللامع المعتاد والعمامة التوتل، ومركوب النمر، والعطر الباريسي مثلما ما أفعل في كل صلاة جمعة ثم أركب سيارتي، بل لبست إحراماً أبيضاً، مثل الذي يلبسه الحجاج في مكة و أنتعلت (سفنجة) مثلهم.
لم أفعلها رغبة في لفت الأنظار، وإنما خاطر غريب نبت في قلبي :
ما دمت تقف بين يدي الله، فألبس كما يقف عباده في أعظم مقام على أرضه بمكة عند بيته الحرام.
ومضيت نحو المسجد، الطريق الترابي بدأ لي مختلفاً في ذلك الصباح، كأن كل خطوة فيه تكبيرة، لكنها تختلف عن التكبير الذي نسمعه مع صوت السلاح وشبح الموت والقتل والأكاذيب، كل طرف من الأطراف المسلمة المتقاتلة يُكبر، فهل نكون مع من يُكبر أم مع من يُكبر ضد من يُكبر !!!؟؟.. الكل يدعي أنه مع الحق والدين!!!!!
كل خطوة كانت نعمة لرجل اعيته الحرب، أصوات العصافير كانت تسبيحاً أسمعه، وكل ذرة غبار كانت حمداً وشكراً اتنفسه…
حين وصلت المسجد و دلفت للداخل خيم الصمت وكل العيون التفتت نحوي، وبعضها لم يخفِ دهشته…
سمعت همساً خلفي يقول:
“يا زول دا شنو؟ الزول دا جاي من العمرة هسي واللا جن قبل شوية ؟”
مع ضحكات تدعي تعظيم المكان واللحظة …
رفع أحد المصلين صوته محاولاً الإصلاح: “ياخي ربنا قال خذوا زينتكم عند كل مسجد، انت ناسي الزينة واللا شنو؟!”
إبتسمت وجلست في الصف الأخير، أستغفر بهدوء…
تساءلت في نفسي:
وهل هناك زينة أعظم من اللباس الذي يلبسه الناس حين يعلنون الفقر الكامل لله؟.
لكنهم لم يروا سوى الثوب، لم يروا النية التي لبسته بها,.
أدركت حينها أننا في الغالب نحاكم الشكل لأنه أسهل من محاكمة النفس…
بعد الصلاة، اقترب مني شيخ القرية، رجل نحيل جاوز السبعين، بعينين تلمعان كقطعتين من الحكمة القديمة قال لي برفق:
(ما فعلته غريب يا ولدي… لكن يمكن يكون جميل…)
سألته:
“جميل كيف يا عمي الشيخ؟”
أجاب وهو يحدق في الفراغ كأنه يرى ما وراء الدنيا: “ذكرتنا بحقيقتنا يا ولدي… كلنا محرمين، لكننا نسينا طريق الحج الأكبر… حج النفس إلى الله.”
سكتنا وكان الصمت بيننا أبلغ من كل كلام، كأنها صلاة جديدة لم تُكتب في الكتب و لم تُدرس في المدارس.
في الجمعة التالية، رأيت بعض الشباب يدخلون المسجد في جلابيب بيضاء تشبه الإحرام.
حتى الإمام نفسه قال على المنبر:
“الزينة ليست دايماً حرير ولا عطر… مرات بتكون نية بيضاء، وقلب متجه للحج مع كل صلاة…
ابتسمت وأنا أستعيد في داخلي نور الفكرة التي بدأت بخاطر بسيط.
أدركت أن التغيير لا يبدأ حين نقول للناس ما يفعلون، بل حين نُدهشهم بالفعل الصادق نفسه…
خرجت من المسجد والريح تداعب أطراف الإحرام.
نظرت إلى السماء وقلت همساً:
(اللهم أجعل صلاتنا لك من إحرامها إلى سلامها.. اللهم أجعلنا نعظم العبادة أكثر من العادة، وأجعل لنا في كل صلاةٍ حجاً، وفي كل بياض بداية).
انتهت



