
في بلاد تجري فيها الأنهار كما تجري الحكايات على ألسن أهلها، وتفيض الطبيعة بالكرم كما يفيض القلب بالمحبة الصادقة، تظل المفارقات قائمة كقدر لا فكاك منه.
بلاد تمتلك كل أسباب الخير و الجمال، لكنها تجهل كيف تتعامل معه، أوباش تقودهم الانانية وحب الذات، كأن بيننا وبين النعمة خصومة قديمة…
بالأمس وأنا في مهجري القسري على رمل الشاطئ بدعوة من أحد أصدقاء الاغتراب القدامي خطر ببالي عنوان الأغنية و عنوان هذا المقال…
لم تخطر الأغنية علي بالي عبثاً او دون ما يبعثها من أعماق الذاكرة، فقد خطرت لي وأنا أتأمل (الممشى العريض) الممدود كابتسامة على حافة البحر، و(المشاة) يتجولون بخفة وسكينة، قفز من ذاكرتي صوت (أبو السيد) وهو يصدح بكلمات العميري ويقول:
مكتوبة في الممشى العريض
شيلة خطوتك…
لي البنية مكتوبة بالخط العنيد
فأدركت أن كل خطوة هنا منظمة، محسوبة، تحترم حق الجمال في أن يُرى.
بينما هناك في الوطن الممتد على ضفاف النيل لا ممشى ولا خطوة، بل اختناق في كل اتجاه….
هل من المعقول أو المقبول أن يكون عندنا أكثر من نيل وانهار تجري من تحتنا، وجمال يليق بالخلود، ولا نجد (الممشى عريض) أو حتي بعض (المشاة) على ضفاف تلك الأنهار والممشي الممهد؟.
أم أن مشكلتنا أعمق من الإسفلت والبلاط؟
هل فقدنا القدرة على السير أصلاً؟؟… و على إتخاذ خطوة في الاتجاه الصحيح؟؟؟..
فيأتي صوت مصطفى الجميل:
عندك وقفت من المشي وغرقت في ضو النهار…
كأن هذا الشطر من الأغنية كُتب عن حالنا جميعاً ..
وقفنا عن المشي في النور، وغرقنا في الضوء نفسه، كأن النور صار عبئاً لا نحتمله.
والأغرب أننا حين نجلس على شارع النيل و ضفة النهر الجميل، نعطيه ظهورنا وننظر إلى الشارع وسواد الأسفلت.. نتأمل البؤس !!! أي عبث هذا؟؟؟
أيعقل أن نترك وجه الماء مصدر الحياة وننظر إلى زحام السيارات، وكأننا نخشى الجمال؟؟
وحتى ننفي خشيتنا للجمال نلتف حول (ستات الشاي)… مع حضور (ست اللهيج السكري) وكل أخواتها
وحين يغني المغني :
الليلة بالليل نمشي شارع النيل
أتساءل في دهشة ساخرة:
أي شارع نيل هذا؟؟؟
فتاتي الاجابة من ذات المغني :
قهوة بي مزاج الليله أنت السكر وابقا ليك دواء الليله
نحن من نحتاج الدواء والمرض العضال الذي زرعته السنوات العجاف وعقوده الكئيبة!!! …
أي نيل تقصد ؟؟
أنه شارع البؤس شارع بلا نيل، بلا ممشى، بلا مقاعد للراحة، بلا وجوه باسمة
شارع نغني له، كأننا نغني للوهم، وبلد انعدم فيه الممشي العريض وحتى (المشاة) والآن تأكله كلاب الحرب…
هل يعقل أن ذلك الذي يغنون له هو شارع النيل؟؟
لا ممشي ضيق ولا عريض ولا (مشاة) أربعة عقود لم نستطع تمهيد ممشى عريض (للمشاة) …
هناك على شارع النيل صنعوا شباب قالوا عنهم عبدة الشمس وخلقوا لهم طقوسهم بدلاً عن تمهيد الممشى العريض العريض لهم وجعلهم ضمن (المشاة) هناك صنعوا (9 طويلة جدا) حتى دون ممشي قصير جداً…
الآن ياتيني صوت مصطفى رحمه الله:-
أدوني من قبلك مناديل الوصول
وفردت أجنحة العشم في ساحة الوطن البتول…
لكن أجنحة العشم تلك في واقعنا تصطدم بسقف واطئ جداً من الخيبة….
نفرح بلا سبب، ونبكي بلا دموع، ونغني للوصول بينما نحن في التيه والضلال.
كم يشبه هذا حالنا حين نحتفل بما لم يتحقق، ونحزن على ما لم نسع إليه أصلًا …
فيردد الصدي :-
بس داير أقولك يا أصيلة
لو تعب فينا التمني
وانتهك وتر المغني…
و كأن العميري مع صوت مصطفى ولحنه وهو يخاطب المحبوبة، يخاطب الوطن المكلوم ، ذلك الوطن الأصيل الذي أرهقه التمني وانتهك فيه وتر الغناء وصار كل ما تبقى وعدًا بالفرح لا يأتي ولا ينجب إلا قهوة بمزاج حيث لا ممشى ضيق ولا (مشاة).
وهنا أصل التناقض في حياتنا السودانية، نملك الأنهار، ونموت عطشاً بالنهار
نملك التاريخ ونعيش بلا ذاكرة ولا تيار
نملك الخصوبة ونحصد القحط والدمار
نغني للوطن ونخاف منه…
ونكتب على الجدران شعارات الحرية بينما في دواخلنا آلاف القيود الصغيرة….
كان أصل يوم لي حضورك كت بريدك ومشتيهك
وإنكسر فيني الترجي ونِلت من سفري الخسار…
كم مرة كنا ننتظر (حضور الوطن) نريده في أبهى صوره، وبه الممشي العريض فنكسر الرجاء بأيدينا، ونعود من السفر بخسارات جديدة؟.
فالممشى العريض إذن ليس مجرد طريق على الشاطئ…
إنه رمز لفكرة مفقودة، فكرة أن يكون للحياة اتساع يسمح بالمشي، بالبوح، بالتفكير، بالحب، بالخير، بالجمال
هو استعارة لوعينا الضيق، ولتلك اللا معقولية التي تجعلنا نحول كل نهرٍ إلى مجرى للنسيان الطويل
ربما آن الأوان أن نعيد ترتيب اتجاهاتنا…
أن نواجه النهر لا الشارع، أن نمشي في الضوء لا نغرق فيه،
أن نصنع ممشانا العريض و(المشاة) بأقدامنا قبل أن تصنعه الحكومة أو تخلق البديل وتستورد (المشاة) قبل الممشى العريض.
وعندك وقفت من المشي وغرقت في ضو النهار…
فهل نجرؤ هذه المرة على المشي من جديد؟.