الرأي والتحليل

محمد طلب يكتب: رسالة سلام لوالدي في الذكرى الثانية لرحيله

سلام (أبوي) الحبيب لقد تعودت أن أكتب إليك و أنت بيننا وكل رسائلي وكتاباتي إليك في الدنيا كانت تلقى عندك القبول و الاستحسان، فقد تعودت أن أكتب إليك معتذراً و مبرراً عما ارتكبت من أخطاء، فعذراً لأني أكتب الآن و لا أدري أن كانت رسائلي بعد موتك سوف تصلك أم لا، لكني قطعاً ساجد فيها بعض من الراحة التي كنت أحسها عندما أفضفض لك عبر الرسائل .
بغياب شمس هذا اليوم الثالث من سبتمبر وبعد صلاة المغرب بتوقيت السودان تكون الأرض أكملت دورتها حول الشمس بعد فراقك لنا (مرتين) كاملتين في كل مرة ثلاثمائة خمس وستون يوماً و بضع يوم و في كل يوم وليلة يتعاقب الليل والنهار وحياتنا بعدك مظلمة .
سبعمئة وثلاثون يوماً مرت و مثل عددها ليالٍ ونهارات مريرة مرت بنا كل فصول السنة مرتين بذات الطعم تذوقناها و الحزن باقٍ فينا يا (أبوي) وألم الفراق ومآسي الحرب و الشتات.
لحظات الفرح في حياتنا لا أقول انعدمت فالحياة مبنية على التضاد لكنها أضحت نادرة، وهذا حال كل أهل السودان الآن، و على ندرتها إلا أنها تغرس بذور الأمل لتنبت في أيام قادمات لجيل قادم و ربما أفراح قد لا ندركها و أن وصلناها قطعاً سيكون طعمها مختلفاً و النكهة غير مكتملة، لعدم وجودك بيننا أيها الحبيب.
بعدك فقدنا بيتك و الوطن، أحمد الله ربي أنك لم تعش المرارت التي تذوقناها لرقة في قلبك أعلمها جيداً و ربما تقطع قلبك عشرات المرات وأنت ترانا مطرودين من بيتك كما الفئران .
قدر الله أن يرحمك بالموت فهو الرحمن الرحيم …
دعني أحكي لك ما حدث لقلب أمي الصابرة الخاشعة التقية النقية التي أتخذت طول حياتها خدمتناعبادة لله غير صلاتها وقيامها و صيامها و بيت الله الذي رأته و طافت حوله و دعت لك ولنا .
أمي بعد رحلة العناء شقوا صدرها في عملية (قلب مفتوح) بعد أن وجدوا بالقلب مشاكل كبيرة.
ذاك القلب الذي احتوانا وتكبد المشاق إعتل بعد الفراق و الزوجية التي استمرت لأكثر من نصف قرن وفقد الاتزان و رفض أن يضخ الدم لباقي أجزاء الجسم وكأنه يمارس احتجاجاً على النوازل فقرر الأطباء أن يشقوا صدرها ويتفقدوا ذلك القلب فوجدوا ما لا يعلمون، أصابتهم الدهشة وجدوا حزناً بين الضلوع وكلمات كثيرة مختزنة لم تُقال ربما كانت في إنتظار فرح قادم، لا علم لها و لنا بموعده لكنه قطعاً قادم، فتحوا ساقها الذي كم سعي للخير ساقاً ظل واقفاً يخدمنا إلى لحظة اقتحام (العيلفون) من أوباش الدعم السريع و إحتماء الجيش بمعسكره .
أمي التي ظلت ساعية بين نيران الدوكة و الصاج و الكانون بالحطب والفحم و بابور الجاز حتى بوتجاز مطبخها الحديث (عقود و هي تركض بين تلك النيران كي تدخل الجنة)، يا الله ما هذا الجمال، أسأل الله لها ولك ولنا الجنة، فهي تدرك جيداً أُنها (أُم) حتى قبل أن تلدنا وتصبح (والدة و أُم) في ذات الوقت، (فليس كل والدة أُم) فقد كانت سنداً ومعيناً لوالدتها التي ظلت قربها حتى رحيلها .
أخذوا من ذلك الساق الكريم ما قد يساعد في وصول الدماء وبث الحياة في الجسد المنهك.. أمي تشافت الحمد لله الآن وهي بخير تغريك السلام وتعزيك في فقد الوطن .
نحن الآن جميعنا بخير ورغم المرارت العظيمة وصل بعض من أحفادك والاسباط عتبة الجامعات، أعلم كم كنت ستكون سعيداً بذلك ولو كنت بيننا لنحرت الذبائح فرحاً و إبتهاجاً.
الآن أتذكر كيف أني صدمتك في أحلامك نحوي حين نما لعلمك أنني تقدمت لدخول الكلية الحربية سراً الآن أبكي لأني خيبت أملك في أن تراني طبيباً مداوياً للجراح لكنه أمل إن شاء الله يحققه الأحفاد والأسباط رغم المرارات .
ما زالت الحرب التي رحلت عنّا وهي في شهرها الخامس مستمرة، عشرات من الأهل والمعارف رحلوا بعدك. الآف من اهل السودان ماتوا بالرصاص و المسيرات والقنابل و ملايين أضحوا مشردين في بقاع الأرض. والسودان الذي كنت تعرفه لم يعد هو ذاك الوطن الشاسع الذي طفت معظم أجزائه موظفاً بالخدمة المدنية أو زائراً لأهلك المنتشرين جنوباً و شمالاً وشرقاً وغرباً، فقد كان السودان (كل أرجائه لنا وطن) و لم يعرف ما أسموه (قانون الوجوه الغريبة) وهو من الغرائب التي أتت بعد رحيلك .
يبدو أنني اثقلت عليك بعكس تلك المرارات بحديث الأرواح هذا والذي لا أدري أن كان يصلك أم لا لكنا بإذن الله سنلتقي في حياة أخرى وندعو الله أن يجمعنا بك فنحن (بعض من عملك) في الحياة الدنيا عسى أن يرفعك الله به و يرفعنا معك ويجمعنا بك أن كنا (عملاً صالحاً) ..
كل الأهل والأحباب، أخوك و اخواتك و والدتي وأولادك والأحفاد والأسباط يغرونك السلام، فادعو لهم بالسلام عند السلام رب السلام
ابنك المكلوم
محمد طلب

هشام احمد المصطفي(ابوهيام ) رئيس التحرير

من أبرز المنصات الإلكترونية المخصصة لنقل الأخبار وتقديم المحتوى الإعلامي المتنوع والشامل. تهدف هذه المنصة إلى توفير الأخبار الدقيقة والموثوقة للقراء في جميع أنحاء العالم العربي من خلال استخدام التكنولوجيا الحديثة والأساليب المبتكرة في عرض الأخبار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى