
قفز إلى ذهني العنوان أعلاه بعد لقاء أدبي لمناقشة رواية (السنسنة الحمراء) للروائية ناهد قرناص.
خلال النقاش اعاقتني ظروف من مواصلة الحديث (اون لاين على الزووم) لكني سألتها أن كان تكرار موضوع (قضاء الحاجة) ومساحته وتكراره في الرواية أن كان رمزياً، سؤال بدا غريباً في ظاهره، فحتى بين المثقفين من أهل السودان والعرب، ما زال الحديث عن (قضاء الحاجة) أو (قضاء الوطر) يثير الحرج، وكأننا نتحدث عن أمر لا يليق بموائد الفكر والأدب.
لكن ما شدني هو أن الرواية ذكرت هذا الفعل أكثر من مرة، وربطته بمعاناة البطل، فشعرت أن وراءه دلالة أبعد من الجسد…
دلالة تتصل بعمق الإنسان، وربما بعمق الوطن نفسه…
في العادة نخجل من الحديث عن قضاء الحاجة، نعتبره شأناً خاصاً بالجسد، شأناً ينبغي ستره وتجاوزه سريعاً.. لكننا ننسى أن الجسد الذي لا يقضي حاجته يمرض، ويتورم، وتتعفن أحشاؤه وربما يموت.. قضاء الحاجة ليس عيباً.. بل هو فعل الحياة حين تتخلص من موتها الداخلي…
هو ما يُبقي الجسد في حالة توازن بين الداخل والخارج، بين ما يؤخذ وما يُلقي، بين العطاء والاستفراغ في رواية السنسنة الحمراء، تكرّر فعل قضاء الحاجة في حياة البطل كمعاناة جسدية يومية ارتبط بالظلام و الليل واختفاء الاثر واقتفائه.. لكنها في جوهرها ربما تكون معاناة وطنية….
الجسد هنا هو الوطن..
والأمعاء المسدودة هي ضمير الجماعة حين يحتبس فيه الفساد، حين لا يفرغ الناس قذارتهم الفكرية والسياسية في وقتها،
فتتراكم في الداخل…
حتى تنفجر في شكل حرب مثل التي نحن عليها … ربما هي نتيجة (الإمساك الطويل).
الحرب نفسها يا أصدقائي، هي قضاء حاجة مؤجلة
(قرف تراكم) لم يُعبر عنه، غضب لم يجد طريقاً للخروج الباكر وفي المواعيد المنظمة كلمة حق سكت عنها الجميع حتى تعفنت ..
يا سادتي (قضاء الحاجة) نظام و ترتيب وبدونه يختل الكثير.. نحن في السودان ومن يشبهنا في العالم العربي نخجل من (قضاء الحاجة)…
ونخجل أيضًا من (قضاء الحاجة الوطنية).. نخشى الاعتراف بالأخطاء، نغطي القذارة السياسية بشعارات طاهرة، و نترك الروح تختنق تحت ركام المجاملات.. لكن كما أن الجسد لا يُشفى إلا حين يُفرغ ما يثقل أمعاءه الغلبظة.. كذلك الوطن لا يُشفى إلا حين يواجه ذاته، و يطرح كل ما تراكم فيه من خوف، وكذب، ومحاباة ، وبؤس…
(قضاء الحاجة) في الرواية إذن ليس فعلاً بيولوجياً بل طقس تطهيري، محاولة لاستعادة العافية المفقودة.
وحين يُمنع الإنسان من قضاء حاجتهم، لسبب ما مثل (سوء ما دخل البطن ) فهو يُمنع من حرية الجسد…
وحين يُمنع الوطن من قول الحقيقة، فهو يُمنع من حرية الروح، في الحرب لم يعد الناس يجدون مكاناً لقضاء حاجتهم بكرامة، لا مرحاضاً، ولا مأمناً و لا وطناً يقيهم العيون والرصاص.
الجسد عار و الكرامة عارية، والإنسان يبحث عن زاوية صغيرة ليفرغ وجعه…و هكذا يا سادتي، صار (قضاء الحاجة) في زمن الحرب فعل بقاء رمزي…
من يقضي حاجته، يعلن أنه ما زال حياً و ما زال الجسد يقاوم،
ما زال الوطن.. رغم كل شيء يفرغ ما يؤذيه ليبدأ من جديد ..
(قضاء الحاجة إذاً ليس فقط ما يفعله الجسد، بل ما يحتاجه الوطن أيضاً حين يطلب الشفاء).
سادتي أنه (امساك مزمن) و لا اظن أن أهل الطب يعرفون ما هو الامساك المزمن الذي أحل ببلادنا لقد أضحي (التبرز) ضرورة في اعمق (ادبخانة) و ربما تكون هذه الحرب هي الحقنة الشرجية المؤلمة المريحة التي فرضتها الضرورة .
31/12/2025



