
يقف السودان اليوم عند عتبة مرحلة حرجة تحتاج إلى المقاربات لا الخطابات، وإلى عقولٍ تُحسن إدارة الحرب بقدر ما تُحسن تكتيكاتها.
لقد جاء خطاب رئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بالأمس من داخل غرفة القيادة والسيطرة في لحظة فارقة عقب التطورات المؤلمة بمدينة الفاشر، وقد أراد أن يرسل رسائل طمأنينة وثقة إلى الداخل، ورسائل تحدٍ للمليشيا و عتاب إلى الخارج، مؤكداً أن النصر حتمي لأن الشعب والجيش في خندق واحد لأجل كرامة الامة.
غير أن الارتجال الذي شاب الخطاب أضاع فرصة ثمينة كانت سانحة لإعلان جبهة وطنية عريضة تلتف حول الدولة في معركتها الوجودية، وتعيد للسودان صوته السياسي وسط الضجيج الإقليمي والدولي المخزي.
لقد كان متوقعًا أن يضع الخطاب خارطة طريق وطنية تتجاوز اللغة التعبوية إلى منهج المقاربات السياسية التي تحتاجها البلاد في هذه اللحظة. فالمعركة وإن كانت في ظاهرها عسكرية، إلا أن جوهرها سياسي ودبلوماسي بامتياز. إن النصر في الميدان لا يكتمل دون نصر في الوعي، ودون إعادة تشكيل المشهد السياسي الداخلي بما يضمن وحدة الجبهة الوطنية، وتقديم خطاب محكم للعالم يعكس عدالة القضية السودانية وشرعية الدولة التي تقاتل عن بقائها.
ففي الوقت الذي تصدت فيه القوات المسلحة والمقاومة الشعبية في الفاشر لأكثر من 270 هجومًا منسقًا ومدعومًا خارجيًا، كان الاداء السياسي غائبًا عن معركة الصمود، واللسان الدبلوماسي عاجزًا عن مجاراة بطولات الميدان.
إن سقوط الفاشر لم يكن هزيمة عسكرية بقدر ما كان نتيجة لغياب مقاربة سياسية وإعلامية متماسكة. فقد قاتل الجنود بشرف، لكن الدولة لم تمتلك خطابًا سياسيًا يوازي تضحياتهم أو يحوّل صمودهم إلى رأسمال دبلوماسي. كان المطلوب رؤية وطنية تُخاطب العالم بلغة القانون والسياسة، وتُعرّف عدالة القضية السودانية في إطارها الدولي، لا بلغة الانفعال والوعيد.
لقد أثبتت هذه الحرب أن الشعب السوداني عنيد لا يقبل الضيم، وأن الميدان ما زال أقوى من المنابر. فثلاثون شهرًا من الحصار في الفاشر لم تكسر إرادة الجيش ولا كبرياء المدينة، لكن الارتجال السياسي والإعلامي أضعف صورة الدولة، وترك العالم أمام رواية مشوهة يكتبها المخذلين.
إن ضعف الفعل السياسي والدبلوماسي لا يقل خطرًا عن فشل في المعركة الميدانية. فالحرب لا تُحسم فقط بالسلاح، بل بالقدرة على بناء سردية وطنية تحاصر العدو في الوعي العالمي. ولعل الخطأ الأكبر أن الخطاب الرسمي ظل دفاعيًا، في حين أن ما تحتاجه المرحلة هو خطاب هجومي بالعقل والمنطق، يفضح تورط الإمارات ومرتزقتها في حرب إبادة الجماعية، ويعيد تعريف المليشيا باعتبارها كيانًا إرهابيًا خارج القانون.
في المقابل، كان من الممكن تحويل زيارة الوفد السوداني إلى واشنطن إلى منصة لاستعادة زمام المبادرة. وقد نجح الوفد بالفعل في تعطيل مسار الرباعية الذي أراد منح المليشيا شرعية سياسية، لكنه لم يحظَ بدعم إعلامي منظم ولا بخط سياسي وطني جامع. ولو وُجدت جبهة وطنية موحدة تضم القوى السياسية والأكاديمية والمدنية، لكان السودان اليوم قد فرض رؤيته.
فالمطلوب الآن إعادة بناء الواجهة الشعبية و السياسية والدبلوماسية للدولة السودانية لتوازي أداء الميدان. هذه الجبهة ليست بديلاً عن القيادة العسكرية، بل رافعة سياسية وجماهيرية تمنح الحرب معناها الوطني وتحوّلها إلى مشروع بقاء، فاذا خذلنا العالم الرسمي المرتهن، هناك عالم الشعوب الحر علي استعداد أن يسمع ويتفاعل. فالتفاوض حينها إذا ذهبنا له لا يكون تنازلاً، بل أداة لتكريس سيادة السودان ومنع شرعنة العدوان.
لقد آن الأوان لأن يدرك صانع القرار أن الحرب الحديثة تُدار على أربع جبهات: الميدان، والسياسة، والدبلوماسية، والإعلام. وقد أظهر الجيش صلابة مذهلة في الميدان، لكن بقيت الجبهات الأخرى رخوة تحتاج إلى إعادة بناء عاجلة. فمن غير المقبول أن يقاتل الجندي بثباتٍ، بينما تتلعثم السياسة وتتردد الدبلوماسية، ويتحدث الإعلام بلهجة مترددة في مواجهة آلة دعائية ضخمة تمولها أبوظبي وتنسقها استخبارات إقليمية.
إن دبلوماسية المقاربات في زمن الحرب تعني بالضرورة الانتقال من رد الفعل إلى الفعل، من الشكوى إلى المبادرة، ومن الارتجال إلى التخطيط. فالسودان لا يحتاج إلى استعطاف العالم، بل إلى إقناعه بعدالة معركته وبمشروعه الوطني للبقاء. وهذا لا يتحقق إلا بتوحيد الخطاب السياسي، واستنهاض الجماهير وإعادة تعريف القضية باعتبارها حربًا ضد الإرهاب العابر للحدود، لا نزاعًا داخليًا كما يحاول الخصوم تصويرها.
لقد كشفت تجربة الفاشر أن التكتيك العسكري يمكن أن يصمد أمام ألف هجوم، لكن الخاصرة الأضعف تبقى في غياب الفعل السياسي المتقن. فحين تخطئ السياسة، تُبدد النصر الميداني، وحين تصمت الدبلوماسية، يتحدث الخونة نيابةً عن الوطن. لذلك، فإن معركة السودان القادمة ليست فقط في خطوط النار، بل في استعادة زمام الخطاب السياسي والسيادة عبر دبلوماسية ذكية تعيد التوازن بين البندقية والعقل واتخاذ القرار.
بحسب #وجه_الحقيقة فان الحرب لن تدوم إلى الأبد، لكن التاريخ لا يرحم من دخلها دون رؤية. والسودان اليوم، رغم الجراح، يملك ما يكفي من العناد الوطني ليحول هذه المأساة إلى ولادة جديدة لدولة تعرف أن القوة الحقيقية ليست في السلاح وحده، بل في القدرة على استنهاض الشعوب وصياغة المقاربات التي تصنع النصر وتمنع تكرار الهزيمة.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 29 أكتوبر 2025م
Shglawi55@gmail.com



