
تصاعدت التحذيرات السودانية مؤخرًا من خطورة تدفق مئات المرتزقة إلى مسارح العمليات في ولايات دارفور وكردفان، حتى باتت نيالا والفاشر محطات عبور للمرتزقة الكولومبيين ، أكّد الإعلام السوداني ومنظمات حقوقية وفاة عشرات المرتزقة من أصول كولومبية خلال معارك فاشر، بعضهم كانوا يمسكون بالطائرات المسيّرة والمدفعية لصالح قوات الدعم السريع، ومصادر أخرى تشير إلى تدريبهم ضمن معسكرات داخل مخيم الزمزم، بعد السيطرة عليه، وهو ما وصفه الجيش بـ”تحويل المخيم إلى قاعدة عسكرية.
إن استمرار تدفق المرتزقة، وسط صمت القوى الكبرى، يكشف أن ما يجري في السودان ليس حربًا أهلية تقليدية، بل مشروع إقليمي- دولي لإعادة رسم خريطة السودان، يشارك فيه رعاة الحرب ومهندسو الفوضى من الخليج إلى واشنطن، وإذا لم تتحرك القوى الوطنية والإقليمية لوقف هذا النزيف، فإن السودان سيتحول إلى سوريا جديدة على ضفاف النيل، ووقتها لن تنفع بيانات الإدانة.
رغم الأدلة التي قدمتها الخرطوم سابقاً حول دعم الإمارات لقوات الدعم السريع، بما في ذلك وثائق وشهادات وشحنات أسلحة، فإن الموقف الدولي لم يتجاوز حدود القلق اللفظي. بل إن بعض القوى الغربية تواصل التعامل مع الإمارات كشريك اقتصادي واستراتيجي، حتى ولو كان الثمن تمزيق السودان وإغراقه في الدماء.
أما عن المفارقة الصادمة أن المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، يتعامل مع هذه الحقائق بصمت يقترب من التواطؤ فالرسالة واضحة لا ضغوط حقيقية على أبوظبي، حتى لو كانت تغذي حربًا دموية تهدد وحدة السودان.
الواقع على الأرض، وسوابق الحروب الإقليمية، تشير إلى أن الأمر يتجاوز قدرات قائد ميليشيا مهما بلغت طموحاته، وأن هناك دولة أو عدة دول تقف وراء هذه العمليات المعقدة ، كما أن الخبراء العسكريون يعرفون جيدًا أن ميليشيا مثل قوات الدعم السريع، مهما امتلكت من ذهب أو نفوذ محلي، لا تستطيع بمفردها إدارة عمليات تجنيد ونقل مئات المرتزقة من قارات مختلفة. هذه عملية معقدة تحتاج إلى غطاء مالي ضخم، وشبكة نقل جوي، واتصالات دولية، وحماية سياسية.
وهنا، تتجه أصابع الاتهام بقوة إلى الإمارات، لسجلها الحافل في إدارة شبكات المرتزقة في مناطق النزاعات، من اليمن إلى ليبيا، ومن القرن الأفريقي إلى بعض بؤر التوتر في غرب أفريقيا. فهي تمتلك سجلًا طويلًا في استخدام المرتزقة من أمريكا اللاتينية وأفريقيا، سواء في حرب اليمن أو الصومال أو ليبيا ،، المعطيات الميدانية تشير إلى أن مطار نيالا لعب دورًا محوريًا في استقبال هؤلاء المرتزقة، وأن رحلات جوية غامضة تمت تحت غطاء المساعدات أو النقل التجاري، بينما كانت في الحقيقة إمدادات بشرية وقتالية لصالح حميدتي.
لا يمكن الفصل بين الأهداف الاقتصادية الضخمة (ذهب دارفور) ووقود الحرب (المرتزقة). فالسيطرة على أكبر مناجم الذهب في دارفور لصالح شركات مرتبطة بالإمارات، و خلق كيان منفصل في غرب السودان يخضع للنفوذ الإماراتي ويفتح بوابة للنفوذ في العمق الأفريقي، وتثبيت نفوذ على خطوط الملاحة في البحر الأحمر من خلال التحالف مع كيانات محلية موالية .. الا تكفى هذة الاسباب كلها أن تكون دافعا لدولة مستغلة ..؟
استمرار تدفق المرتزقة عبر مطارات ومنافذ محددة، وتجاهل المجتمع الدولي للأدلة على تورط أطراف إقليمية، يعني أن السودان مقبل على حرب استنزاف طويلة، وأن ملف تقسيمه ليس مجرد هاجس، بل مشروع تدفعه قوى إقليمية ودولية، وسط صمت أو رضى القوى الكبرى.


