
.
*في مساءٍ هادئ، ومع غروب الشمس الذهبي، انطلقنا من محلية دلقو متجهين إلى مدينة دنقلا، في رحلةٍ بدأت عند الساعة الرابعة والنصف مساءً. تأخرنا قليلًا بسبب انتظار “البنطون”، ذلك الجسر العائم الذي يحمل العربات والناس من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية، وكأنه جسر الزمن الذي يصل بين الحاضر والماضي، وبين السفر والاستقرار*.
*وما إن تقدم بنا المسير حتى داهمنا وقت الإفطار، وأذن المؤذن لصلاة المغرب، فكان لابد من التوقف لنحلي صيامنا ونؤدي الصلاة، فجادت علينا الأقدار بمنطقة تُدعى (إيماني) التابعة لمحلية دنقلا. وكأن الاسم ذاته يعكس الطمأنينة التي غمرتنا بها تلك اللحظات. استُقبلنا هناك استقبال الأهل لأبنائهم، بحفاوةٍ تُجسد روح السودان الأصيلة، حيث الكرم عادةٌ لا تنفكّ عن أهل هذه الديار. جلسنا بين أيديهم، نتناول الإفطار في دفء المحبة، وكأننا في ديارنا وبين أهلنا، فهنا لا فرق بين الغريب والمقيم، ولا تمييز بين الضيف والمُضيف، فالكرم سيد المكان، والجود عنوان الزمان.*
*بعد أن أتممنا الإفطار والصلاة، واصلنا رحلتنا نحو دنقلا، لكن الطريق لم يكن خاليًا المفاجآت. فجأة، شعر زميلنا بألمٍ حاد فاضطررنا للتوقف. نزل من العربة يئن من الألم، وكأن الطريق قرر أن يختبر صبرنا. وبينما نحن متوقفون، ظهر أمامنا جمعٌ من الناس، وكأنهم نبتوا من تراب هذه الأرض الطيبة، يحملون بين أيديهم أكواب العصير وأباريق القهوة، وكأنهم على موعدٍ مع الكرم لا يُخطئونه.*
*حاولنا الاعتذار بلطف، مؤكدين لهم أننا تناولنا من الضيافة قبل قليل ما يفيض عن حاجتنا، لكن إصرارهم كان أقوى، فهم لا يعرفون معنى الاكتفاء حين يكون الكرم ضيفهم الدائم. وقفنا مذهولين أمام هذا العطاء اللامحدود، وقلوبنا تمتلئ امتنانًا لهذا الشعب الذي يجعل من الضيف ملكًا، ومن السفر متعة، ومن اللقاء ذكرى لا تُنسى.*
*#على الهاامش:*
*”حين تكون الضيافة ديدن الناس، يصبح الغريب ابن الديار، والسفر محطة من محطات الحب والوفاء.”*
*”ولا يُقاس الغنى بما تملك، بل بما تعطي، وهكذا كان أهل منطقة إيماني ودنقلا، أغنياء بكرمهم وعطائهم.”*
*وهكذا، أكملنا رحلتنا نحو دنقلا، حاملين معنا ذكرى لن تُمحى، ودرسًا في الجود لن يُنسى، حيث كانت الطريق شاهدًا على القلوب التي تنبض بالخير، والمواقف التي تُعيد الإيمان بالإنسانية.*