
تقرير: هشام احمد المصطفى (أبو هيام)
المقدمة
إنّ الحياة الإنسانية، على الصعيدين الفردي والجماعي، مليئة بالتحديات والمخاطر والفرص. والمجتمعات، لا سيّما المجتمعات الإسلامية، مطالبة بأن تكون يقظةً وفاعلة، قادرة على مواجهة ما يعترضها من أخطار، لا أن تركن إلى السكون والجمود.
ومن أعظم الآيات القرآنية التي تدعو إلى الإعداد واليقظة قوله تعالى في سورة الأنفال:
> ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ﴾
تُعَدّ هذه الآية الكريمة نداءً صريحًا إلى الاستعداد الدائم، وبناء القوّة الشاملة التي تُمكّن الأمة من مواجهة أعدائها وحماية كيانها، دون عدوان أو تجاوز.
في هذا المقال، نستعرض مفهوم الاستنفار من منظور هذه الآية الكريمة، ونتأمل أبعادها المتعددة: الإيمانية، والمعرفية، والاجتماعية، والاقتصادية، والأمنية، ثم نبيّن كيف يمكن ترجمتها إلى واقعٍ معاصر ينهض بالأمة ويحفظ كرامتها.
مفهوم الاستنفار
معنى الاستنفار لغةً واصطلاحًا
الاستنفار في اللغة مأخوذ من مادة نفر، أي خرج وسار بسرعة. ويُقال: استنفر القومَ أي دعاهم إلى النهوض والتهيؤ.
أما في الاصطلاح، فيُقصد به حالة التعبئة العامة والاستعداد الكامل لمواجهة خطرٍ أو تحقيق هدفٍ عاجل.
وفي المفهوم القرآني، يتجاوز الاستنفار المعنى العسكري الضيّق إلى كلّ معاني الإعداد الشامل: إعداد النفس والعقل والمجتمع لمواجهة كلّ تحدٍّ يهدّد الدين أو الكرامة أو الأمن أو الحياة.
. ضرورة الاستنفار
الاستنفار واجب لأنّ الحياة لا تخلو من صراعٍ بين الحق والباطل، وبين البناء والهدم. والآية الكريمة تُبيّن أن الأعداء ظاهرون وخفيّون:
> ﴿وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾
فالمجتمع المؤمن لا ينتظر حتى يُفاجأ بالتهديد، بل يستعدّ له مسبقًا بما يملك من وسائل القوة، المادية والمعنوية.
كما أن الإنفاق في سبيل الإعداد عبادةٌ مأجورة، إذ قال تعالى:
﴿وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾
وهذا يرسّخ مبدأ أن الاستعداد لا يضيع سدى، بل هو استثمار في سبيل الله وحماية للأمة.
تفسير الآية الكريمة
الآية الكاملة تقول:
> ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60]
. شمولية الأمر بالإعداد
كلمة «ما استطعتم» تُفيد التوسّع والمرونة، أي أن الإعداد يشمل كل ما يمكن الإعداد له من أنواع القوة، بحسب الزمان والمكان والظروف.
فالقوة لا تقتصر على السلاح، بل تشمل قوة الإيمان، وقوة الاقتصاد، وقوة العلم، والإدارة، والإعلام، والتربية، وغيرها.
المقصد من الإعداد
قال تعالى: ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾
أي أن الغاية من الإعداد هي ردع العدو ومنعه من العدوان، لا التسلّط أو الاعتداء. فالإرهاب هنا بمعنى الردع والهيبة التي تمنع الباطل من التجرؤ على الحق.
. الإشارة إلى الأعداء المجهولين
قوله تعالى: ﴿وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾
يعني أن هناك أعداء خفيّين لا يُعرفون إلا لله، ولذلك يجب أن يكون الإعداد شاملًا دائمًا، لا مرتبطًا بظروف وقتية أو عدوٍّ معلوم فقط.
. البُعد الإيماني في الإنفاق
الآية تختم ببيان أنّ الإنفاق في سبيل الله لا يضيع: ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾،
أي أن كل ما يُنفق من جهد أو مال أو وقت في سبيل إعداد القوة له جزاء مضاعف عند الله، وهو دليل على أنّ العمل للإعداد عبادة خالصة.
أبعاد الاستنفار في ضوء الآية
إنّ الاستعداد الذي تدعو إليه الآية ليس عسكريًا فقط، بل يمتد ليشمل كل مجالات الحياة، ويمكن إجماله في الأبعاد الآتية:
البعد الإيماني والروحي
القوة الحقيقية تبدأ من الداخل، من قوة العقيدة والإيمان بالله والثقة بوعده.
فإذا كان القلب ضعيفًا، فلن تنفعه الأسلحة ولا الأموال.
ومن هنا فإنّ الاستنفار يبدأ بتقوية الإيمان، وترسيخ الثبات، وغرس روح التضحية والصبر في النفوس.
وقد كان النبي ﷺ يقول:
> «المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير»
فالقوة المطلوبة هنا شاملة للإيمان والعزيمة والخلق.
البعد المعرفي والثقافي
من أبرز صور القوة في العصر الحديث قوة العلم والمعرفة.
فالمجتمعات التي تملك ناصية العلم والتكنولوجيا قادرة على حماية نفسها وبناء مستقبلها.
ولذلك يدخل في قوله تعالى «ما استطعتم من قوة»: التعليم، البحث العلمي، الابتكار، ونشر الثقافة الواعية التي تُحصّن المجتمع من الجهل والتضليل.
والجهل من أعظم أعداء الأمة؛ لأنه يفتح الباب للغزو الفكري والانحراف القيمي. لذا فاستنفار العقول لا يقلّ شأنًا عن استنفار الجيوش.
البعد العسكري والأمني
الجانب العسكري هو الظاهر في سياق الآية، لأنّها نزلت في إطار الإعداد لغزوة.
لكن هذا لا يعني أن القوّة محصورة في السلاح القديم، بل تتجدّد بتجدّد الزمن.
فـ«رباط الخيل» في الماضي يُقابله اليوم إعداد الجيوش، وتطوير الصناعات العسكرية، والأمن السيبراني، وحماية الأوطان من أي اعتداء.
غير أن هذا الإعداد يجب أن يكون منضبطًا بالقيم الشرعية، قائمًا على الردع لا العدوان، وعلى الحماية لا الفساد.
البعد الاقتصادي والتنظيمي
الاقتصاد القوي هو درع الأمة وسلاحها في وجه التبعية والفقر.
فالآية الكريمة تربط بين القوة والإنفاق: ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾،
أي أنّ بناء القوة يحتاج إلى موارد تُنفق بوعيٍ وعدل.
لذلك فإنّ العمل، والإنتاج، والاستثمار، والإدارة الرشيدة للموارد، كلها من صور الإعداد الواجب.
ومتى اختلّ الاقتصاد ضعفت الإرادة الوطنية، وانهارت منظومة الدفاع الاجتماعي والسياسي.
البعد الاجتماعي والتربوي
إنّ إعداد الأمة لا يكون إلا بإعداد أفرادها. فالتربية الصالحة هي أولى درجات الإعداد.
يجب أن يُربَّى النشء على حبّ الوطن، والإخلاص، والمسؤولية، والانضباط، لأنّ الاستنفار الحقيقي يبدأ من البيت والمدرسة والمسجد.
كما أن وحدة الصفّ والتعاون والتكافل الاجتماعي من أهمّ مظاهر القوّة، فالأمة المتفرّقة لا تُرهب عدوًّا.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾
فالاستنفار الجماعي لا يتحقق إلا بوحدة الكلمة واتحاد الهدف.
البعد الأخلاقي والإنساني
القوة التي تنفصل عن الأخلاق تتحوّل إلى طغيان.
لذلك أكّدت الآية على أن الإعداد يكون «في سبيل الله» لا في سبيل الهوى أو العدوان.
إنّ الغاية من القوة هي تحقيق العدل وصون الكرامة الإنسانية، لا الاعتداء أو الهيمنة.
فالقيم هي الضابط الذي يجعل القوة نعمة لا نقمة، ويجعل الاستنفار وسيلة للبناء لا للهدم.
تجليات الاستنفار في الواقع المعاصر
. على مستوى الفرد
إعداد النفس بالإيمان، وتنمية المهارات، والتزوّد بالعلم النافع.
تنظيم الوقت والموارد الشخصية، فكلّ إنسان مسؤول عن «قوّته» الذاتية.
العناية بالصحة الجسدية والنفسية، لأن المؤمن القويّ جسدًا وعقلًا أقدر على العطاء.
المشاركة في خدمة المجتمع، فالتطوّع والعمل العامّ جزء من الإعداد الذي يحصّن الأمة.
على مستوى المجتمع
الاستثمار في التعليم والبحث العلمي ليكون المجتمع منتجًا لا مستهلكًا.
بناء اقتصاد وطني متين يقلّل التبعية ويزيد من الاستقلال.
إقامة أنظمة عادلة تُوفّر الأمن وتمنع الفساد.
نشر ثقافة العمل والإتقان والمسؤولية الاجتماعية.
تعزيز التعاون والتكامل بين فئات المجتمع ومؤسساته.
. على مستوى الأمة
توحيد الصفّ الإسلامي، ونبذ الخلافات التي تُضعف القوة الجماعية.
دعم القضايا العادلة، ونصرة المستضعفين في كل مكان.
تطوير القدرات الدفاعية المشتركة، وإنشاء مراكز بحث وتخطيط إستراتيجي تخدم الأمة.
ترسيخ مفهوم الإنفاق في سبيل الله عبر مؤسسات الزكاة والوقف والعمل الخيري، فهي أدوات عملية للإعداد.
: الاستنفار في مواجهة تحديات العصر
إنّ التحديات المعاصرة التي تواجه الأمة – من غزوٍ ثقافي، وتبعية اقتصادية، وحروبٍ إلكترونية، وأزماتٍ بيئية – تقتضي استنفارًا شاملًا ومتوازنًا.
ففي زمنٍ تُدار فيه المعارك بالعقول قبل السلاح، تصبح قوة الفكر والإعلام والتقنية هي خط الدفاع الأول.
كما أن مواجهة الفساد الداخلي، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإصلاح التعليم، هي من أهمّ أشكال الإعداد الحديث.
إنّ الأمة التي لا تُعدّ نفسها علميًا واقتصاديًا ستظلّ في حالة استضعاف، مهما امتلكت من جيوشٍ وعدد.
تقييم واقع الأمة
لنعترف بصدق: نحن بحاجة إلى وقفة مراجعة.
هل أعددنا ما استطعنا من قوّة؟
في كثير من المجالات، ما زلنا نعاني من ضعفٍ في التعليم، وتراجعٍ في الاقتصاد، وانقسامٍ في الصفوف.
لكنّ الأمل قائم، لأنّ في الأمة طاقات هائلة إذا أُحسن توجيهها، يمكن أن تعيد نهضتها.
والمطلوب اليوم ليس أن نلحق بالآخرين فقط، بل أن نستعيد ذاتنا وهويتنا، ونعيد قراءة قوله تعالى:
> ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ﴾
بمنظارٍ معاصرٍ يوازن بين القيم والإبداع، وبين الإيمان والعلم.
سابعاً: توصيات لبناء الاستنفار البنّاء
ابدأ من نفسك: تعلّم، طوّر ذاتك، واستثمر وقتك في ما ينفع الأمة.
ادعم التعليم والبحث العلمي: فهما أساس النهضة الحقيقية.
شارك في خدمة المجتمع: التطوع، والمبادرات الشبابية، وبناء القدوات الإيجابية.
. حافظ على القيم والأخلاق: فهي روح القوة ومصدر احترام الآخرين.
. استثمر في الاقتصاد الوطني: دعم المنتج المحلي، وترشيد الإنفاق، ومحاربة الفساد.
استعدّ للطوارئ والأزمات: بالتخطيط المسبق والتعاون الجماعي.
وحّد الكلمة والصف: فالأمة المتفرقة لا تُرهب أحدًا.
اجعل نيتك خالصة لله: فالقوة لا تُطلَب للمجد الدنيوي، بل لإعلاء كلمة الله وخدمة الإنسان.
الخاتمة
إنّ الاستنفار الذي تدعو إليه الآية الكريمة ليس حالة مؤقتة، بل منهج حياةٍ دائم.
فالإعداد هو روح الحضارة، وسرّ البقاء، ووسيلة النهوض.
وحين يأمرنا الله تعالى بقوله:
> ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ﴾
فهو لا يأمرنا بمجرد التسلّح، بل يدعونا إلى بناء الإنسان، وتزكية النفس، وإقامة العدل، وتحقيق التوازن بين الدنيا والآخرة.
القوة التي أرادها الله هي قوة شاملة: إيمانًا، وعلمًا، واقتصادًا، وأخلاقًا، وتنظيمًا.
فمتى تحقّقت هذه القوة في الأمة، صارت عزيزة الجانب، مهابة المكانة، قادرة على حمل رسالتها إلى العالم.
نسأل الله أن يوفقنا لإعداد ما استطعنا من قوّة في سبيله، وأن يجعلنا من عباده الصادقين الذين يعملون بالقرآن قولًا وفعلاً.
﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾
والله وليّ التوفيق.



