
ربما يستبعد كثيرون أن الحرب الدائرة الآن هي نتاج طبيعي لعدم وجود (دستور دائم) للبلاد منذ الاستقلال إلى يومنا هذا ولا توجد قوانين فاعلة تنتظم الحياة وكل ما نحن عليه الآن ما هو إلا نتاج عن الموروث الثقافي للشعوب السودانية و أن الصراعات والشعارات لم تكن إلا نتاج عن تلك الموروثات التي لم نمييز بينها على قِدمها و هي تحمل الجيد وغيره وما يناسب عصرنا وما لا يناسبه.
بدأ قبل الاستقلال ما يبين ذلك الموروث وما سوف يقود إليه فمثلاً (الإدارة الأهلية) لم تكن إلا تطوراً مرحلياً لما سبقها فطن (المستعمر) لذلك بعد قراءة جيدة لتلك المجتمعات لكن الحكومات الوطنية لم تفطن لأهمية التطور الطبيعي والعلمي الذي كان من المفترض أن يحدث كما أن (المستعمر) دمج بين تاريخ وجغرافيا الشعوب لصناعة (الإدارة الأهلية) وهناك أمثلة لا نود ايرادها هنا اعتمدت الوجود الجغرافي وليس القبلي في الإدارة الأهلية.
تمثلت بدايات ما نحن عليه قبل الاستقلال في شعارين متضادين أحدهما (منفتح) والآخر (منغلق) إلا أن الهدف من ذلك الانفتاح أو الانغلاق لم يكن صادقاً لذاته بل يحمل تناقضه و روح الكراهية بداخله ولم تصدق النوايا فصار يلازمنا إلى اليوم عدم صدق النوايا فالآن العسكر لم يكن صادقاً في حكومة مدنية وخصيمه الحالي وحبيبه السابق ليس الديموقراطية من نواياه وكلاهما تربى على الموروثات دون تمييز.
و ذات موروثات الحياة المدنية انتقلت للحياة العسكرية
فمثلاً شعار (السودان للسودانين) والذي إلتف حوله الجميع في مرحلة ما إلا أنه لم يُعرف في ذاك الوقت وبالدستور والقانون من هو (السوداني) وإلى اليوم لا نعرف من هم أهل و شعب (دولة السودان) وليس هناك أوضح من إنفصال الجنوب وما يقوله العامة والنخبة الآن (ديل ما بيشبهونا خليهم ينفصلوا) ويظل ذلك الأمر انفصال بعد انفصال حتى ينفصل السودان إلى اشتات ونعود (لحالتنا الأولى) ومن قال لكم أن الشبه في اللون والدين والعرق ضرورة لقيام (دولة) واستقراراها فأكبر دولة في العالم الآن ما هي الا مجموعة من الشعوب والألوان والأديان وخليط عجيب جعله (الدستور) متجانساً وأصبح يحكمه قانون الدولة ولعل المثال واضح أمامنا الآن في المحاكمات التي واجهها الرئيس الأمريكي (ترامب) وغيره من قبل والقضاء سيد الموقف، والهند أكبر (الديموقراطيات) بها عشرات الأديان والألون تتدرج من الأسود الداكن جداً إلى الأبيض الفاتح وكلهم هنود تحكمهم أعظم ديموقراطية.
أما شعارنا الآخر الداعي (للاتحاد مع مصر) لم يكن سوى فعل مضاد للشعار الأول والدليل عدم صموده أو العمل الجاد نحو فكرته (الاتحادية) على الإطلاق ورغم ذلك ظلت الكيانات (الاتحادية) قائمة وفاعلة بعيداً عن شعارها بل ومتنازلة عنه تماماً بل مضادة له وكان اتجاه الحزبين الكبيرين نحو الكرسي والسلطة هو الغالب ولم يتجه أي منهما عاملاً بقوة في اتجاه شعاراته مما خلق فراغاً كبيراً استغله اليمين واليسار حتي وصولنا لهذا الشتات.
كنت في مقالات سابقة قد اشرت إلى أن المجتمع أساسه (الزوجية) و إذا كانت هذه الزوجية (سائبة) فإن الناتج مجتمع (سائب) وأشرت أن ما يدور بذهني من أفكار (سائبة) تحتاج لتكاتف جهود كبيرة من علماء في مجالات مختلفة من العلوم الإنسانية من اجتماع و قانون ودين وسياسة واقتصاد، علماء حقيقيين وليس حملة شهادات علمية رفيعة فقط وكذلك أشرت أننا نفتقد هذا النوع من العلماء وهذا الأمر ربما يحتاج للبحث عن سودانيين أجانب و أجانب سودانيين مع أجانب صرف وهذا أيضاً يزيد الأمر تعقيداً.
لكن الواقع قد يفرضه علينا مما يتوجب الحذر…
أول لبنات هذا البناء كما أسلفت هو (الزوجية) مما يتطلب مراجعات صادقة وخالصة في امر (الزواج) والأعراف والقوانين التي تحكمه.
فمثلاً لوقت ليس بالبعيد كان ما يحكم على الزواج وفاعليته ونجاحه هو (الدم) بحيث يظل الناس يحتفلون بطقوس عديدة حتي يخرج لهم العريس وهو يحمل (دم) فض البكارة على منديل أبيض وهو (يبشر) ليؤكد فحولته و عذرية الزوجة و زغاريد الطرفين تصم الأذان
وهي تشبه كثيراً دماء (ضكرنة) ورجولة هذه الحرب والتكبير والتهليل من طرفيها.
قد يقول قائل هذا الأمر قديم وانتهى و لكن حقيقة هذا الأمر ما زال موجوداً ويسيطر على عقلية الناس حتى أهل العلم والثقافة وإذا نظرت حولك ستجد أكثر من (طلاق) في شهر الزواج الأول مما يعني أن هذا الأمر متسرب مترسب في عقولنا بدرجة كبيرة رغم أن العلم دحض هذا المفهوم وربما تكون الزغاريد لمن اتاهم (بدمٍ كذبٍ).
وهو تقليد موجود أيضاً في كثير من الدول العربية والإسلامية لكنهم تطوروا و وضعوا قوانين ولوائح صارمة فمثلا لا يتم العقد إلا بعد خضوع طرفيه للكشف الطبي وقبولهما بنتائجه وصلاحيتهما للزواج وفي بعض الاحيان يمنع الزواج بالقانون.. ويتم اخضاع المقدمين علي الزواج بعد (الكشف الطبي) لدورات تدريبة مكثفة ومهمة.
أما نحن فشعب يعلمه الشارع الصالح والطالح و(شختك بختك) و(يا جابت يا رابت) وكأن الأمر (كرتلة) أو (توتو كورة) شباب ورياضة.
طبعاً في مجتمعاتنا التي تحتاج لكثير من التأهيل يصعب الحديث في مثل هذه الأمور خصوصاً في ظل التمسك الأعمى بقشور الدين فمثلاً لو ناديت بقانون (يمنع) زواج إبن العم فسوف تُرفع السيوف في وجهك بحجة (حرم ما أحل الله) دون وعي وادراك للفرق بين المنع لمصلحة المجتمع والتحريم الشرعي النصي… فهو أشبه مثلا بمنع زراعة محصول معين ومنع استيراده رغم أنه حلااااال وهناك فرق كبير.
أظن أن ما يعرف بقوانين (الأحوال الشخصية) رغم عدم تخصصي بالقانون تحتاج لمراجعات أساسية على هدى الشريعة الإسلامية وليس بعيداً عنها وبأيدي متعاونة وصادقة من (الفطاحلة) في العلوم الدينية و الاجتماعية والقانونية وربما تغنينا على المدى البعيد عن منظمات المرأة والمنظمات النسوية و منظمات الطفولة وغيرها من التنظيمات التي أتت نتيجة الخلل السابق في العلاقات الزوجية.
وقبل الختام أكرر أن المجتمعات تبني على الزوجية وأي خلل يصبها يترتب عليه أكثر من خلل في المجتمع.. ومن يراجع الآية الأولى من سورة النساء وما احتوته السورة كاملة من هدى سيجد مقالنا في قلب الموضوع ومن أراد بهذا المقال شراً أيضاً سيجد ضالته لكنه خُط بنوايا صادقة وقابل للنقاش والأخذ والرد و سوف تليه سلسلة مقالات كما أقر بأني (زول عنقالي) لكن ربما يجد ما أطرحه العلماء والمختصين الذين يفيدون به المجتمع.