
تلاحظ في الآونة الأخيرة ارتفاع وتيرة التعامل العنصري عبر الألوان التي يتخذها البعض ذريعة لتولي المناصب في الخدمة المدنية وغيرها في العمل النقابي والمهني، وكما هو معلوم فإن قضية التهميش قد اتخذت ذات المنحى ، وهو ما فكرت فيه بخبث دول البغي والاستكبار من أعداء البلاد الذين أعملوا مشرطهم القمئ بحبكة مستغلين بعض ضعاف النفوس ومهتزي التربية الوطنية ذي الهشاشة المجتمعية الذين أكلوا الطعم واعتقدوا أن مصالحهم من خلال هذا الأمر الخطير.
إن الصراع على المناصب من أساس عنصري هو انعكاس لما يدور في المجتمع ، ومما يستغرب له أن الذين ظننا فيهم خيرا وتدينا قد خذلونا تماما في هذا الأمر وسلكوا ذات طريق التعامل بالمناطق والجهات والألوان والنعراع دون النظر لجانب اهتمامهم بالمؤهلات والمقدرات والفوائد التي تجنى منهم لهذه المناصب مما أفقد الخدمة المدنية بريقها بعد أن أقعدت بها هذه الخلافات العنصرية التي تتخذ تعنصرا ومنهجا وتخلفا.
لقد عالج الإسلام قضية التعامل بالألوان بين بني البشر لقوله تعالى(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ، إذن المولى عز وجل قد كرم بني آدم بالتقوى بعد قوله تعالى الذي شملهم عموما (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)، وقد عضدت السنة أمر التقوى كأساس وحيد لدرء الخلافات وإذابة النعرات والتعايش السلمي بين كافة السحنات لقوله صلى الله عليه وسلم(لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى) توجيه واضح وأمر محسوم.
إذن ذوي البشرة البيضاء أو السحنة السوداء إن لم يتبعوا طريقة وأسلوب التقوى كما جاءت بذلك الآيات والأحاديث خابوا وخسروا وأضروا أنفسهم قبل أن يضروا غيرهم ، فالتقوى ينبغي أن تكون أساس كل شئ ، وبفقدانها تنشأ الحروبات وتتعقد العلاقات وتنعدم الصلات وتفنى الذوات وتعاب النزوات وتفشل الثورات وتنتفي الثروات ، فالوقاية النفسية بأن الله سبحانه وتعالى قد خلقنا جميعا مختلفين في ألواننا وألسنتنا وأصلاب أعراقنا ، فينبغي أن يكرم هذا الخلق بهذا التباين لأنها روح الله نفخها في هذه الأجساد المختلفة، فعالم الأرواح غير معروف الألوان مثل عالم الأبدان ، فهو أنقى وأصفى وأطهر وأطيب فلنتعامل عبره، ومتى ارتقينا بأرواحنا سمت طينتنا الظاهرة فوق مكان الملائكة المكرمين(كرام بررة).
وقد فكرت في كتابة هذا المقال في أول زيارة لي للأستاذ ياسر الشريف الذي أصيب بكسر في رجله وهو في طريقه للمشاركة في أعمال تصحيح امتحانات الشهادة الثانوية وقد ذكرنا تداعيات ذلك من قبل، فقد أبدى سعادته للوفود الرسمية والشعبية والمجتمعية التي وقفت معه وقفات مشرفة وقامت بواجبها تماما نحوه بدفع كل نفقات وتكاليف علاجه.
وذكر هذا الأستاذ المنصف أن الأمم التي تتعلم هي التي تنهض بمناطقها وأرضها ووطنها ، وهو مناط الأمر كله، وقال إن ما وجده من مسؤولي الولاية وزملائه المعلمين في الهيئة النقابية لعمال التعليم بولاية نهر النيل وكذا الاتحاد المهني للمعلمين بالولاية لم يكن يجده من منطقته ، وأن دواعي التهميش التي يرددها البعض معيبة ومردودة على أصحابها وقائلها ومطلقوها بحق أريد به باطل.
وبرر بأن المناطق المهمشة التي يستغلونها بمواقف خائبة هي التي لم تهتم بتعليم أبنائها حتى يقوموا بتطويرها وإنما انشغلوا بأمور أخرى ولم يلتفتوا للتعليم إلا بعد أن جف الضرع وتلف الزرع وقد تقدمتهم إزاء ذلك أمم في مجال التعليم وهم من أسهموا في تنمية ذات المناطق التي يدعى تهميشها ولم يقتصر أمرهم فقط على مناطقهم.
وقد علت نبرة دولة (٥٦) مؤخرا مع هذه الحرب اللعينة، وهذه الدولة قد اشتركت فيها جميع أنحاء البلاد، ومعلوم من هو صاحب ومنطقة من اقترح استقلال السودان من داخل البرلمان ومن هو رافع علم البلاد، وكلاهما قد ظلا محل احترام واجلال جميع شعوب مناطق السودان ومكوناتها المختلفة وظلا كذلك أغنية في شفاههم ترددها ألسنتهم على الدوام، ولكن وللأسف الشديد قد خلف بعدهم خلف أضاعوا هذه التضحيات الوطنية وهذه الملاحم ذات الوحدة الوطنية الصادقة ، فقد اتبعوا طريق العنصريات عبر استغلالهم لقضية الألوان واستغفالهم للناس بأن مناطقهم مهمشة ، وقد زرعوا الفتن بين سكان تلك المناطق وكانوا سببا مباشرا لما جرى لهم من حرق للقرى وتهجير للأهالي.
وأرى أن الشعب السوداني واعي للحد البعيد وسيقوم بتدمير هذه الدعاوى العنصرية التهميشية البغيضة ، وهذا ما نشاهده ونلمسه من خلال التعايش السلمي الرائع بين مختلف القبائل بمتباين ألوانها وأعراقهت في كل مناطق السودان وهم مسلمون يجمعهم دين خاتم عظيم ويحتويهم وطن عزيز وحبيب إلى نفوسهم ، وهاهم أفراد القوات المسلحة والقوات المساندة لها سواء كانوا من القوات المسلحة أو قوات درع الوطن أو المستنفرين يقاتلون مع بعضهم البعض للدفاع عن الوطن والدين والأرض والعرض وهم في اختلاف لوني وعرقي ومناطقي يزودون في تكاتف تام عن حياض الوطن وترابه الغالي.
وختاما أقول، فليتقِ الناس الله في التعامل فيما بينهم وليتوقف البعض عن تزويد النعرات والتهميش بالنيران متخذين من ذلك منفذا لتفتيت البلاد وتعذيب العباد ، ولتتوحد الكلمات وتتحد الصفوف ولتكن الإلفة والمحبة والتوادد هو عنوان تعاملنا انطلاقنا من تقوانا في أقوالنا وأعمالنا ، فالتقوى التقوى التقوى كما وجهكم ربكم ونصحكم رسولكم على ضوئها.