الرأي والتحليل

سليمان الطيب منير يكتب: نظرة في واقع النكبة بين قوافي شعر البطانة والبادية لود ضحوية واستشراف لحظات الرحيل للاخرة!

لا أميل ان أنصب نفسي واعظا فالوعظ الديني التقليدي السائد البعض منه لا يستهويني . فهو يميل للصراخ كثير الوعيد وحدة الخطاب مما قد يكون من وقعه علي السامع النفور وقشعريرة البدن . النفس البشريه مطبوعه بما وهبه لها المولي سبحانه للميل للطيب من القول وبالتالي الاستجابه للخطاب اللين الذي يتوافق مع سجيتها فيستريح العقل والقلب لمدلول الكلام فيصغيان .
وقفت عند اللحظات الاخيره التي عاشها الشاعر الهمباتي ود ضحويه وهو يودع الدنيا ويستشرف الاخره ومعروف عنه ولغه في الخطايا خلال حياته الصاخبه والغافله عن مالات المصير . والتي قضاها همباتيا يجوب فيافي البطانه وبادية شمال كردفان . وقفت متاملا هذه اللحظات وهو يستشرف محطة المغادره لهذه الحياه واعظا” ذاته نادما” مستدركا” ما فات جامعا” بين قوافي شعره روح البطانه ومعالم الباديه التي تسري في وجدانه وخبرها زمانا” طويلا والرجاء الحار الذي يطلقه متوسلا المولي في الصفح والغفران وهو يستشرف لحظات الرحيل في هذا الموقف الرباني الذي وقف عند عتباته . فبدأ يستدعي ماضيه وايام الغفله والنزق والجبروت منشدا”
*يوما نداور البكره ونمصر ثديها*
*و يوما نشق عتاميرا” بعيده وتيها*
*يا نفس السواد المتعه كملتيها*
*ابقي لزومه وكت القرعه وقعت فيها*

وفي ساعة الاحتضار ودنو الاجل طلب المصحف ثم وضعه علي صدره واحتضنه وانشد منجايا” ربه راجياً رحمته ومغفرته :

*يا من انبت الزرع المخدر فرعو*
*يا من بدل الدم باللبن في ضرعو*
*يا رازق الخلوق حتي المخالفين شرعو*
*اسقي عرق شجرتي الديمه يابس فرعو*

انها احدي خواطر وتداعيات النزوح ونكبة الوطن التي جالت بخاطري ارويها في هذا المقال عطفاً علي ما ورد من حديث حول شاعر البطانه والباديه ود ضحويه رحمه الله الذي اشرنا اليه في فاتحة الحديث من خلال المقاربه والمقارنه ربما يري السودانيون فيها بعضاً او كل ما فرطوا فيه وفي انفسهم وبلادهم فأرتد عليهم نكبات يعيشونها الأن حسرات وهم بين مفقود ونازح وشهيد وجائع وغني اصبح فقيراً في غمضة عين ! فهل ينشدون اليوم ما انشده ود ضحويه وهم يضعون المصحف علي صدورهم ويحتضنونه تدبراً وعظة وتوبة وانابة صادقين ولكي تطأ بلادهم بعد هذه الاهوال عتبات فجر جديد أولي ملامحه قياده سياسيه ممن حملوا السلاح وبذلوا الدماء والارواح واستعادوا الوطن مستلهمين عظات المحنه ودروسها لصياغة واقع جديد و إسدال الستار علي ماضي سياسي بائس تتصدر مشهده احزاب ومكونات سياسيه منها الذي بلغ من الكبر عتياً ودخل مرحلة التشظي وتعدد الاسماء والولاءات فلا ارضاً قطع ولا ظهراً ابقي . ومنها المستحدث فهو كالطفل الغرير يلهو غافلا عن كل ما حوله وبعضها لم يرعوي حتي في التماهي مع المؤامره وصفوف الاعداء والمعتدين في موقف يسخر منه التاريخ ! هي كيانات سياسيه وهميه بلا أمل يرتجي لا يجب ان يصبر عليها الوطن اكثر مما صبر عبر تاريخه . هذه الاحزاب والكيانات فالحديث حولها يطول لا تستوعبه المقالات ويحتاج للمواعين الكبيرة ونحن قادرون عليه بفضل الله لو لا طبيعة المقال والحيز الذي يحكمه . لقد تناسلت وكثر عددها خلال عصر الانحطاط حتي اصبح عشرة افراد يمكنهم ببساطه ان يقيموا حزباً سياسياً يحملون شنطة صغيرة يتجولون بها للتكسب ولا تهم عضوية الحزب ولا المقر والبرامج السياسيه وحقيقة مصادر التمويل ومصالح الشعب ! وحتي حينما تتاح لها الفرصه في حكم البلاد فانها تفشل وتضع النهايه لحكمها بايديها ! قولنا حول هذه الكيانات السياسيه ليس تجنياً ونقوله في جملة واحدة مفادها عليها ان ترحل بكل إرثها الثقيل الذي اقعد الوطن وتختفي عن الواقع السياسي ولا تكابر فقد ان الاوان لهذا الشعب ان يستريح ولكي تتمكن بلاده ان تضع نفسها علي عتبات سلم جديد يقود نحو التعافي في كل شئ والعبور نحو غد مشرق جديد . حينها سوف تغني بلادنا تراتيل الفجر الجديد الذي انتظرته طويلاً ! بلد استعيدت بالدم وفقدت كل ما بنته خلال المائة عام المنصرمه لابد لها من واقع سياسي جديد يقطع صلته بالماضي يقوم علي مؤسسات سياسيه ودستوريه تمثل مصالح الشعب الحقيقيه وشرف هذه التضحيات الجسام ويجسدها في تحقيق امن البلاد اولا والحرية والعدالة والاستقرار وبناء دولة المؤسسات والخدمات . لقد اشرت قبل ذلك في كتاباتي السابقه واعيده الان لإرتباطه بتصحيح مسارنا الذي نأمله في فجرنا السياسي الجديد الذي نتطلع اليه بعد نهاية الحرب وتحقيق النصر حيث ذكرت أن افة الحكم في بلادنا هو ذلك الخلل الذي ظلت بذوره تنمو في غفلة منا خلال عمر البلاد السياسي وهو هذه الايديولوجيه بشقيها اليميني واليساري وطموح بعض العسكريين الذي يخالف طبيعة واجباتهم الدستوريه والعسكريه وكل ذلك مجتمعا هو الذي اعاق طريق البلاد لتحقيق حكم رشيد يمثل ارادة الشعب الحقيقيه ويلبي تطلعاته . وكذلك غياب الوعي بحسن ادارة التنوع الذي يشكل طبيعة بلادنا والمتمثل في تعدد الاعراق والثقافات والبيئات الذي وجد في العديد من دول العالم من حولنا فأحسنت إدارته فاستقر وضعها السياسي والإجتماعي والإقتصادي فحققت التنميه والاستقرار ورفاهية شعوبها .
انها كلمات رايت ان اقرع بها ابواب النفوس كي تصحو من غفله طالت واستطالت عبر تاريخ بلادنا حتي داهمنا الخطر ووصل بيوتنا وقرع ابوابها ودخل . الجمتنا المفاجأه وحرنا في امرها وتملكنا الخوف والفزع وبدأنا الهرب ومغادرة بيوتنا بما فيها . وخلال هذا المشهد الذي لا يغادر وجدان كل من عاشه قتلوا وانتهكوا عروضنا ونهبوا اموالنا وممتلكاتنا ودمروا مؤسساتنا الانتاجيه الصناعيه والتعليميه والخدميه والمتاجر والاسواق واخلوا المنازل من ساكنيها وشردوهم في الافاق وحتي دور المتاحف والوثائق والتراث والحضاره والتاريخ محوها من الوجود وفقد السودانيون كل ما بنوه بالجهد المضني والعرق والصبر الطويل عبر تاريخ بلادهم وسقطنا وسقط الوطن معنا في الهاويه ! ومهما تباري القوم في هذه النكبه التي أصابت البلاد وافاضوا في التحليل والجدل حول اسبابها وظروفها فهي مؤامرة ذات ابعاد محليه واقليميه ودوليه هدفت الي زوال البلاد وإستبدالها بوجود اخر صورته فى اذهان الذين دبروها وحدهم دون سواهم ! هي مؤامره لم يشهد التاريخ المنظور لها شبيها ظلت عواملها الخفيه تسري تحت اقدام الوطن وتتخفي كالماء تحت اعشاب التبن لينهار بلد باكمله في ايام معدوده يمور بالحركه والحياه ! غير انه وبرغم حجم المؤامره التي استهدفت زوال الوطن فقد تولي المولي سبحانه برحمته هذا الشعب الطيب المسالم فحفظ له وطنه ورد كيد الاعداء والمتامرين وافشل امرهم ! ان من ينظرون لهذه النكبه التي أصابت الشعب والوطن كقضايا جلوس ومفاوضات وتسويات يظلمون أنفسهم في حق هذا الشعب بل يتغاضون عن ما أصابه وهم يعلمون !
أخيراً هي كلمات صادره عن احد أبناء وطنكم يجهر بها بكل الوعي والصدق والوطنيه عاصر ظروف البلاد السياسيه والاجتماعيه والاقتصاديه منذ الاستقلال دون تحزب أو عصبيه باذلا جهده في الخدمه المدنيه ذات الحيده والكفاءه والنزاهه والوطنيه والتقاليد الراسخه وكانت غرة علي جبين السودان . واجباتها عديده وذات اثر عميق في حياة الناس أقدسها صيانة المال العام من الفساد والمفسدين وتسخيره للمصلحه العامة وهي خدمة مدنية توارت مع الاسف ولم يعد لها وجود . انه واقع خدمه مدنية عاشته بلادنا وعشناه معها قبل سنوات الإنحطاط وليست أحاجي تروي ! ساهمنا فيه بقدر ما هيأه لنا المولي سبحانه من نصيب في خدمة بلادنا في المجال الاداري والتنفيذي والاكاديمي من خلال هذا المشهد التاريخي للخدمة المدنية الذي استعرصناه وحتي التقاعد عن العمل وقد تناولته كثيراً في كتاباتي وغيره من الفضائل والصور المشرقه التي كانت تتدثر بها بلادنا تذكرة وعبره . لذلك وجب علي هذه البلاد ان تعود لهذا الارث العظيم وغيره من مظاهر الشرف والكرامه بعد هذه النكبه وتبعاتها المدمره وهذه الدماء التي خضبت تراب الوطن ! وليكن الشعار المرفوع لا للتلاعب والغفله بعد اليوم ! لقد رأينا في هذه الكلمات واجباً علينا ان نؤديه وليس ترف كتابه وفي هذه الظروف الدقيقه والحرجه التي يمر بها الوطن وما تعرض له من ويلات وبما ينير الطريق وينفع الناس والمولي سبحانه من وراء القصد .
في الختام فقد كتبت كثيراً خلال فترة النزوح التي ربما تقترب من نهايتها الان بالنسبة لي حول ما تعرض له الوطن من محنه تستحق هذا الجهد وقد وجد الكثير مما كتبت طريقه للنشر علي صفحات بعض الصحف الاكترونيه والمواقع الاسفيريه وهذا المقال الذي ربما يكون الاخير هو احد معالم ذلك الجهد رغم ادراكي ان الكثير من الناس في هذا العصر لا يقرأون لاسباب تتعلق بطبيعة العصر نفسه . فقط يميلون لقراءه الموضوعات ذات الوجبات السريعه قليلة المعرفه قصيرة العمر التي انتشرت علي الوسائط التقنيه الحديثه كانتشار النار في الهشيم فينتابني احيانا الاحساس بالحسره علي الجهد العقلي والجسماني الذي ابذله وانا في هذا العمر . غير ان العزاء هو ادراكي ان القليل الذي يقرأ قد يهتم فيشيع ما اكتب
للاخرين ! وياسبحان الله هو عصر عجيب حقاً يصارع المرء فيه ويشقي حتي في إيصال الخير لغيره وتلك الايام نداولها بين الناس !

سليمان الطيب منير
السعوديه منطقة القصيم مدينة بريده .
الجمعة ٢٠٢٥/٩/٥

هشام احمد المصطفي(ابوهيام ) رئيس التحرير

من أبرز المنصات الإلكترونية المخصصة لنقل الأخبار وتقديم المحتوى الإعلامي المتنوع والشامل. تهدف هذه المنصة إلى توفير الأخبار الدقيقة والموثوقة للقراء في جميع أنحاء العالم العربي من خلال استخدام التكنولوجيا الحديثة والأساليب المبتكرة في عرض الأخبار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى