
(الصقر أن وقع كترت البتابت عيب والمقدور أن حصل ما بنفع الجقليب)
ليس كل سقوط مذلة كما أن ليس كل حركة نهوض أو بطولة ففي المثل السوداني يقولون.
(الصقر إن وقع كترت البتابت عيب والمقدور إن حصل ما بنفع الجقليب).
الصقر في الثقافة السودانية رمزا للشموخ، للسيادة والهيبة واتخذ أهل السودان صقر الجديان رمزاً للدولة فهو لا يُرى إلا عالياً، يحلق بعيداً يصطاد في صمت، ويعود في عزة… لذلك حين يسقط لأي سبب فإن المشهد يهز النفوس لأنه سقوط الكبير لا مجرد طيران فاشل.. لكن الحكمة الشعبية لا تترك الموقف عند الحزن أو الشماتة بل تصوغ درسها العميق إذا وقعت فاثبت و أصبر لأن (البتابت) أي الاضطراب والفرفرة والصراخ لا تليق بالصقر الطائر المحلق في الفضاءات الجارح القوي.. إنها تزيد من قبح المشهد و تُظهر ضعفاً لم يكن الناس يرونه من قبل…
فالسقوط لا يُلغي العزة لكن الفرفرة تلغي الهيبة…
وفي الشطر الثاني من المثل، تكتمل الفلسفة:
والمقدور إن حصل، ما بنفع الجقليب
أي أن ما كُتب لا مرد له فلا تنفع الصيحات بعد وقوع القدر فـ(الجقليب) هنا رمزا للجزع والضجيج لما بعد فوات الآوان…
الناس قد تصرخ وتولول لكن القدر ماضٍ في طريقه لا يلتفت اطلاقاً، والمثل بذلك يربط بين الوقار في الشدة و الإيمان بالقضاء، بين السلوك الخارجي واليقين الداخلي.
في الأصل ربما قيل المثل عن فارس سقط من جواده أو رجل كبير أصابته نائبة، فأراد الناس أن يواسوه بهذه العبارة.. لكن بمرور الزمن صار شعاراً للسلوك النبيل في مواجهة الخسارة .. أن تكون صقراً حتى وأنت على الأرض .
وفي واقع اليوم حيث كل شيء يُعرض ويُوثق ويُعلّق عليه، أصبحت (البتابت) و(الجقليب) رمزًا آخر، ردود الأفعال السريعة الانفعالات على المنصات محاولات تبرير كل سقطة بصراخ افتراضي لا نهاية له.
الناس اليوم إذا وقعوا لا يثبتون بل يبثّون كل ما حدث وما لم يحدث.
بينما المثل يقول لك ببساطة:
(اثبت فالصقر لا يشرح سقوطه) أنه صقر جديان يا إنسان…
وما أجمل أن يُقرأ هذا المثل في ضوء التجارب القاسية التي يمر بها السودان اليوم.
حين تسقط المدن أو تنكسر الأحلام، تكثر (البتابت) اللوم، التبرير، تبادل الاتهامات.. لكن المثل يعلمنا أن الكرامة في الصمت لا في الصياح و أن (المقدور) سواء كان فقداً أو حرباً أو ضياعاً لا يُرد بالضجيج، بل بالفعل الهادئ والإيمان العميق…
وختاماً نتمنى أن تظل ببلادنا (صقور جديان) تعرف أن الصقر حين يقع لا يفقد علوه بل يختبر ثبات جناحه على الأرض.
والقدر حين يقع لا يحتاج إلى صراخ و عويل بل إلى فهم وصبر وسلام مع النفس والآخر بعزة وكرامة …
ودعواتنا لأهل الفاشر بقلوبنا لا تتوقف ولا تحتاج بوست أو إعلان.. وقبل ذلك كله الله أعلم بحالهم وحال كل أهل السودان الأبرياء الذين تغدر بهم أطراف الحرب هنا وهناك.
30-10-2025



