
تُعرف الشرطة السودانية عبر تاريخها الطويل بأنها إحدى أكثر المؤسسات انضباطاً في الدولة، فهي تعمل وفق نظام إداري صارم تحوّل إلى نموذج يُحتذى به في عدد من الدول التي استعانت بخبراتها واستفادت من تجربتها المتراكمة. هذا البناء الإداري لم يأتِ صدفة، بل كان نتيجة تراكمات مهنية امتدت لعقود طويلة.
كما برزت الشرطة السودانية بوصفها مدرسة حقيقية خرّجت الكفاءات والخبراء في مختلف التخصصات، ليس فقط في المسار الأمني والجنائي، بل في المجالات الفنية، اللوجستية، الإدارية، وحتى الأكاديمية، لتشكل رافداً متنوعاً للمؤسسات الوطنية داخل وخارج البلاد.
وعلى الرغم من التحديات القاسية التي مرت بها خلال السنوات الأخيرة من اضطرابات أمنية، وانفلات، ودمار واسع بسبب الحرب فقد استطاعت الشرطة أن تصمد أمام الأعاصير والمتغيرات. هذا الصمود الذي لو واجهته مؤسسات شرطية أخرى لربما انهارت واختفت من المشهد تماماً.
وفي قلب هذا المسار الطويل يبرز اسم الفريق شرطة عبدالمنعم عبدالقيوم، رئيس هيئة الشؤون المالية، كأحد أبرز الكفاءات في المجال المالي داخل المنظومة الشرطية. سجله المهني حافل بالإنجازات، ويُحسب له أنه استطاع، مع بداية اندلاع الحرب، أن يعيد ترتيب الملفات المالية للشرطة من نقطة الصفر، الأمر الذي ساهم بشكل مباشر في تثبيت أركان المؤسسة خلال إحدى أكثر الفترات خطورة في تاريخها.
ومع ذلك، ورغم حجم إنجازاته وكفاءته، برز جدل واسع حول قرار التجديد له بعد بلوغه السن القانونية للمعاش (65 عاماً). فقد تم التجديد له عاماً إضافياً ليصبح في الخدمة بعمر 66 عاماً، ثم جاء قرار التجديد مرة أخرى ليصل إلى 67 عاماً، ما أثار تساؤلات حول المعايير التي تُتخذ لاتخاذ مثل هذه القرارات الحساسة.
التجديد لكبار الضباط ليس إجراءً روتينياً، بل يخضع لموافقة وزير الداخلية الفريق شرطة بابكر سمرا مصطفى، إضافة إلى موافقة المدير العام لقوات الشرطة الفريق أول شرطة أمير عبدالمنعم فضل. ومع ذلك، يرى مراقبون أن استمرار التجديد للضباط بعد سن التقاعد حتى وإن كانوا أصحاب إنجازات معتبرة يحمل تبعات مهنية وتنظيمية يجب التعامل معها بحذر.
إذ أن بقاء القيادات بعد سن الخدمة الطبيعية قد يؤدي إلى حجب فرص الترقي أمام الضباط الأصغر رتبة، وهو ما قد يُسهم في إحالة بعضهم للتقاعد القسري بسبب انسداد المسارات الوظيفية، الأمر الذي ينعكس سلباً على الروح المهنية داخل الجهاز.
وفي ذات السياق، لم يكن الفريق شرطة عبدالمنعم عبدالقيوم الوحيد الذي تم التجديد له، حيث جرى أيضاً التجديد لعام واحد لمدير قوات الدفاع المدني الفريق شرطة عثمان عطا بعد بلوغه السن القانونية (65 عاماً). هذا النمط المتكرر زاد من حدة النقاش داخل الأوساط المهنية.
ويرى مختصون أن التمسك الصارم بالقانون يمثل جوهر استقرار المؤسسات، ويؤكدون أن القيادة العليا في الدولة ممثله في مجلس السيادة برئاسة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان كان يتوجب عليها عدم فتح الباب للتجديد إلا في الحالات ذات «الضرورة القصوى» و«التخصصات النادرة».
كما يشير آخرون إلى أن الكفاءات التي تستحق الاستفادة منها بعد التقاعد يمكن إعادة استيعابها كمستشارين خارج الخدمة النظامية، بدلاً من شغلها مواقع وظيفية تمنع حركة الترقي الطبيعية داخل المؤسسة.
بين تقدير الخبرة واحترام القانون، تبقى القضية مفتوحة، ويظل السؤال المطروح بحدة:
هل أصبح التجديد بعد سن المعاش نهجاً ثابتاً داخل الشرطة، أم أنه مجرد استثناء فرضته الظروف؟.



