
في عالمٍ تتداخل فيه خيوط القوة مع خرائط المصالح، تبدو الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب أكثر ميلاً إلى تغليب منطق المكاسب على مبادئ الأخلاق والقيم. فالإدارة الأميركية التي طالما رفعت شعارات حقوق الإنسان عادت لتكشف عن وجهٍ واقعي لا يتورع عن تقديم المصلحة القومية على أي اعتبارات أخرى خصوصاً حين يتعلق الأمر بمنطقة مشتعلة مثل السودان.
قبل أسابيع، حمل وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو قوات الدعم السريع مسؤولية الفظائع ضد المدنيين، وفق ما ذكرته الجزيرة نت. لمّح روبيو إلى إمكانية إدراج هذه القوات على قوائم الإرهاب واصفًا ما يحدث في السودان بأنه مرعب. تصريحات تبدو حادة في ظاهرها، لكنها تفقد زخمها حين توضع ضمن سياق سياسة أميركية باتت تحسب خطواتها بميزان المصالح، لا ببوصلات الأخلاق.
واشنطن، التي ترى في البحر الأحمر معبراً حيوياً لصراع الهيمنة العالمي، تجد نفسها اليوم أمام معادلة معقدة تتقاطع فيها توازنات الخليج، وأدوار شرق أفريقيا ومصالح القوى الكبرى. وفي لحظة تتراجع فيها قدرة الولايات المتحدة على فرض إملاءاتها كما كان الحال قبل حرب أوكرانيا، يبدو أن واشنطن لم تعد اللاعب الوحيد القادر على تحريك خيوط المشهد السوداني.
لم يعد السودان مجرد ساحة مواجهة بين الجيش الوطني الشرعي ومليشيا الدعم السريع. المسألة باتت أعمق من خطوط النار فالدولة التي أنهكتها الانقسامات والحروب، أصبحت أسيرة الاقتصاد الذى يقوم على الذهب والتهريب وشبكات النفوذ العابرة للحدود من خلال الدعم السريع، الأمر الذي فتح شهية اللاعبين الإقليميين والدوليين للتمركز داخل هذا الفراغ.
وبينما تصارع واشنطن للحفاظ على مجال نفوذها التقليدي، تحضر منظومة اتفاقات إبراهام كعنصر محوري في حساباتها. فهذه الشبكة الإقليمية التي تشكل امتدادًا للوجود الأميركي، تواجه اليوم اختبارات صعبة بعدما انخرط بعض الحلفاء في دعم أطراف الصراع السوداني بطرق تُربك التوازنات العسكرية والسياسية على الأرض.
ولذلك تلتزم واشنطن خطاباً عاماً غامضاً ومموهاً يحذر من “تدفق السلاح” وفرض عقوبات علي المرتزقة الكولمبيين دون أن تجرؤ على تسمية الدولة المعروفة لكل العالم التي تغذي الصراع بتمويلها للمليشيا وتدفع الأموال للكولمبيين المعاقبين فكل طرف بالنسبة لأميركا هو حليف استراتيجي لا يمكن خسارته مهما كان دوره في تعقيد الأزمة السودانية. هكذا تتحدث واشنطن بصوت خافت، وتتجنب أي تصريح قد يصيب مصالحها في الخليج أو البحر الأحمر بالارتباك.
لا يمكن فهم الحرب السودانية بعيداً عن مشهد الصراع الدولي المتصاعد. فروسيا التي تسعى إلى موطئ قدم بحري في البحر الأحمر، والصين التي تبني إمبراطوريتها الاقتصادية عبر الموانئ والذهب والبنية التحتية، يقتربان تدريجياً من قلب المعادلة السودانية. هذا التمدد يُضعف قدرة واشنطن على فرض الحلول التي تخدم مصالحها.
ولقد بات السودان نقطة ارتكاز حساسة في الاستراتيجية الأميركية الممتدة من المحيط الهندي إلى الهادئ، حيث يشكل أي اضطراب فيه تهديداً مباشراً لأمن الممرات البحرية وسلاسل التوريد العالمية.
أصبحت واشنطن عاجزة عن اتخاذ خطوات صدامية تجاه الامارات فمصالحها الدفاعية والاقتصادية مع هؤلاء الحلفاء أكبر من أن تُقامر بها حتى لو دفع السودان ثمن هذا التوازن المرتبك .. فما هو رهان الخرطوم الأن؟؟
تعدد الحلفاء لا الارتهان لأحدهم هو الرهان الوحيد الناجح وفي ضوء هذا المشهد المعقد يصبح الاعتماد على الولايات المتحدة خياراً محفوفاً بالخيبة. فواشنطن لا تمنح دعمها إلا حين تتقاطع مصالحها المباشرة. وما إن تتغير الظروف حتى تنقلب الأولويات وتُهمل الملفات، تماماً كما حدث في عشرات الأزمات العالمية.
الحل، إذن، ليس في الاتكاء على حليف واحد سواء كان أميركياً أو خليجياًبل في بناء سياسة سودانية جديدة تقوم على تنويع الشركاء وتعدد التحالفات السودان بحاجة إلى خلق مساحة تنافس بين أميركا وروسيا والصين، بحيث لا ينفرد طرف واحد بالتأثير في قراره السيادي.
فروسيا تبحث عن منفذ بحري والصين العملاق الاقتصادي المرعب لواشنطن تسعى إلى توسيع استثماراتها. وكلاهما مستعدّ لبناء شراكات استراتيجية طويلة الأمد. وإذا استطاعت الخرطوم أن تُحسن إدارة هذا التنافس، فإنها ستضمن دعماً مستداماً، ليس فقط من القوى الكبرى، بل أيضاً من حلفائها التقليديين مثل مصر والسعودية.
إن الاعتماد على القاهرة والرياض وحدهما لم يعد كافياً، فالحرب لم تعد مجرد معارك ميدانية إنها معارك سياسية واقتصادية ودبلوماسية معاً. ويجب على السودان أن يُعيد رسم سياسته الخارجية بما يضمن له مكانة فاعلة لا تابعة، ووزناً إقليمياً لا هامشياً.
إن السودان اليوم رغم جراحه يمتلك أوراق قوة لا يملكها كثير من دول المنطقة موقع جغرافي استراتيجي، موارد ضخمة وساحة مفتوحة لتنافس القوى العالمية. وإذا استخدم هذه الأوراق بذكاء، يمكنه أن ينتقل من دولة تمزقها الحروب إلى دولة تصنع التحالفات وتدير المعادلات.
لكن ذلك لن يحدث ما لم تتبنّ الخرطوم سياسة تقوم على تعدد الحلفاء وتبادل المصالح، لا على الارتهان لواشنطن أو غيرها. فالعالم يتغير وموازين القوة تتحول ومن يظل أسيراً لسياسات الأمس سيجد نفسه خارج زمن اليوم.



