
كثيراً ما يصب عليّ البعض غضبهم، مما أطرحه من مواضيع، في محاولة للكشف عن السوء الذي يعترينا، والذي نحاول التستر عليه وعدم فضحه كي نحافظ على الصورة المتخيلة لنا أمام الآخرين.
والتي رسمناها بانفسنا عن شخصيتنا وكل يوم نحاول إضافة لون جديد وجميل مع تبرير قبيح للإضافة …
لكن المتأمل في الجُمل البسيطة والصغيرة التي تكاد تكون جزء من حياة الناس وفهمها الذي يرضي غرورها، يجد أنها كم من العيوب المُدثرة بالوان مختلفة ومتناقضة ..
في طرحي لبعض قضايا (القرية) أثناء فترة الحرب، لم يجد أحدهم للرد على طرحي سوى جملة مصحوبة بالقسم وأربعة كلمات فقط، وهي الجملة التي سوف تكون محور حديثنا..
ولكن قبل ذلك يجب الاشارة للحقائق التالية:
من قال الجملة متخفياً تحت اسم مستعار.. هو من الذين لهم معرفة بي وقد يكون (قريباً أو صديقاً) أو جاراً لا يبدئ العداء فهو ملم بدرجة ما ببعض تفاصيل حياتي أو ما أصابني من ابتلاءات.. كما أنه جبان ومتخفي ولا يستطيع المواجهة.. ومعظم أهل (القرية) لا يحبون المواجهة ينافقون يبدون خلاف ما يبطنون إلا من رحم ربي ..(ودا ما موضوعنا)…..
نعود إلى الجملة التي قلنا أنها محور حديثنا، عندما قال لي ذلك المتخفي :
” والله.. الله ما خاطئ عليك.. كان شلاك”
عندما قال جملتها مسبوقة بالقسم كان يقصد الشلل الذي أصابني نتيجة جلطات دماغية ربما يكون هو و اشباهه السبب فيها مع الأسباب الأخرى من جانبي… المهم (دا ما موضوعنا) برضو…..
الله ما خاطئ عليك
أخذت هذه الجملة (التقريرية) الحاسمة تفكيري لوقت طويل فهي جملة مستخدمة بشكل طبيعي في حياتنا ربما لا يستوفف الناس لكنها جملة تستحق وقفات و وقفات فهي توضح بجلاء الازدواجية التي تجتاح الوجدان والإنسان السوداني والتي اتناولها في مقالاتي وهي التي جلبت لي عبارة:
والله الله ما خاطئ عليك
من ذلك الأهطل والغبي المتخفي كي يضع نفسه موضع (المُقيم لأقدار الخالق )…
في الحياة السودانية هناك عبارات لا تُقال عبثاً، فهي تحمل من (الدهاء الشعبي) أكثر مما تحمله من الإيمان البسيط. واحدة من هذه العبارات التي تستحق التأمل هي:
الله ما (خاتي) خاطئ عليك.
عبارة صغيرة في لفظها وعدد كلماتها لكنها كبيرة جداً في ما تخفيه من حكم وموقف ومرارة…
جملة عادية تُقال حين تصيب أحدهم مصيبة، صغيرة كانت أم كبيرة وغالباً تأتي من شخص يقف على الرصيف يتفرج على الألم. الجملة في ظاهرها تسليم بالقضاء والقدر، لكنها في باطنها حكم بالإدانة، كأن قائلها يوقع شهادة عدالة السماء ويقول:
(ربنا ما ظلمك، دا جزاءك المستحق) ويضع نفسه موضع( المقرر) والحاكم في الخطأ أو الصواب في ذلك القدر المقدر.
هكذا ببساطة، يتحوّل (الدين إلى غطاء للشماتة) والقدر إلى أداة تبرير اجتماعي لكل ما يحدث. ولأننا شعب بارع في صناعة العبارات و(الخدع) لنخبئ داخلها كل ما لا نجرؤ على قوله صراحة ، فنحن لا نقول (ربما لخير )، بل نقول (الله ما خاتي عليك) …
المصيبة الحقيقية في العبارة ليست في ما تحمله من شماتة فقط، بل في ما (تمنحه لقائلها من سلطة وهمية على الأقدار)…
فهو في لحظة واحدة يتحول إلى مفتي في شؤون الغيب، و يقيس عدالة الله بمقاييسه الشخصية ويبرئ السماء من (ظلمٍ) لم يحدث أصلاً. إنها لحظة غرور متخفية بالتدين، تضع الإنسان في موضع القاضي على مصير أخيه الإنسان.
حقيقة العبارة أنها ممارسة للشماتة بطريقة تبدو (شرعية) بنسبتها للإله.. وتعالى الله عن ذلك الافتراء..
أنها عبارة تمثل الإنتقام والتشفي بطريقة متدثرة بثوب (العدل الإلهي) مع عدم العلم بمفهوم العدل الإلهي..
في النهاية عبارة (الله ما خاطئ عليك) ليست مجرد جملة دارجة، بل (مرآة تعكس كيف نتعامل مع مصائب الاخرين وإبتلاءتهم) بمزيج غريب يجمع بطريقة عجيبة بين الورع والتشفي، و الإيمان الزائف والتبرير النفسي. هي جملة صغيرة تُختصر فيها فلسفة كاملة عن علاقتنا بالقدر والعدالة والغيرة والشماتة، وكلها أشياء تتجاور في قلوبنا كما تتجاور المتناقضات في حياتنا.
ويبقى السؤال المفتوح هل نقولها لأننا نؤمن حقاً بعدالة الله؟؟؟؟
أم لأننا نرتاح حين نرى غيرنا يدفع ثمن ما لا نملك الشجاعة لنفعله نحن؟؟؟
وختاماً نسأل الله السلامة للجميع… وعلى المستوى الشخصي أن ما حدث لي كان قدراً أخفي المولى عز وجل خلفه كثير من الخير وأنا مؤمن بشكل كبير أن ما حدث لي خير كبير ولو ادركتني هذه الحرب وأنا بكامل الصحة لكان وراء ذلك شر فهناك آية مرتبطة بالقتال تقول:
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
وختاماً لا أملك إلا قولي المتكرر لا للحرب و أمنياتي بالسلامة و السلام للجميع.



