الرأي والتحليل

محمد طلب يكتب: (الكلام الأمّو بت عم أبوهو و الما بتدوروهو)

يظهر العنوان أعلاه بلغة العامة وبساطتها وبدارجتنا السودانية ليُعبّر عن الموضوع بصدقٍ و وضوح، لأننا حين نواجه أنفسنا بلغتنا الحقيقية نستطيع أن نلامس جوهر مشكلاتنا دون تجميل أو مواربة.
فالحياة السودانية بها كثير من المشكلات العظيمة التي نتجاهلها ولا نعيرها أدنى اهتمام، وأحياناً نعتبرها ميزات أو خصالاً محمودة، رغم أن مظاهرها واضحة المعالم بل وأكثر من جليّة.
لقد أسهم التقدّم التكنولوجي في كشف حقيقتنا الاجتماعية، فهو لم يخلق العلل بقدر ما أظهرها على حقيقتها، فمشكلاتنا ليست سياسية أو اقتصادية أو ثقافية فحسب، بل هي بالأساس مشكلات اجتماعية متراكمة ساهمت في خلق شخصية مشوهة حاملة للتناقض، تدافع بشراسة عن الفعل ونقيضه في آنٍ واحد، في مشهد غريب يحتاج إلى معالجات نفسية واجتماعية عميقة تعيد للإنسان السوداني توازنه المفقود.
ونحن في أمسّ الحاجة أيضاً إلى معالجات قانونية عميقة لما يُعرف بـ(قانون الأحوال الشخصية)، وهو موضوع كتبنا فيه كثيرًا، خاصة فيما يتعلّق بالزواج والطلاق. فقد رأينا كيف أدى تسهيل الزواج و (منظماته) إلى تسهيل الطلاق، ولذلك دعوتي الصريحة هي إلى تصعيب الزواج، لا من الناحية المادية بل من الناحية الإجرائية والتفصيلية، حتى يصبح الطلاق أكثر صعوبة، فيتحوّل الارتباط من مجرد عقد شكلي إلى مسؤولية حقيقية وقرار مدروس. ومن أراد التوسع في هذا الجانب فليُراجع سلسلة مقالاتي المعنونة بـ :-
(الذم بديل الدم فلنصدق النية) المتاحة على الشبكة العنكبوتية، وعندما أرى نظاما قانونيا يحرم الزواج من بنت العم أو الخال أو حتى ذات القبيلة رغم أنه حلال شرعاً يكون قد تحقق ما أحسبه غرض المُشرع جل جلاله.
سأكتفي هنا بذكر واحدة من التناقضات العجيبة التي توضح ازدواجية المعايير في العلاقات الزوجية ونظرة الأهل إليها، فعند زواج البنت تريد أمها أن تكون ابنتها هي المسيطرة على زوجها، بينما عند زواج الابن لا تحب إطلاقًا أن تسيطر عليه زوجته، بل تريد له أن يكون هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة. مشهد مضحك حقًا، لكنه في جوهره يدل على الأنانية وحب الذات، أهدافه السيطرة على (السلطة والثروة) و مظاهر التسلط الخفية، ويكشف عن خللٍ عميق في فهم العلاقات الإنسانية. وهذا في نظري نوع من أنواع (الهمبتة)، لا بالمعنى المادي، بل المعنوي الذي تجذّر في وجداننا. فنحن ما زلنا نحتفي بثقافة (الهمبتة) ونكتب فيها شعراً ونثراً ونصفق لسلوكها، و نُعظم أبطالها قاطعي الطريق معتادي السلب والنهب ونعتبرها (فراسة) و(نُبلاً)، ونحكي قصصها بحب، بينما هي في حقيقتها اعتداء على قيم العدالة والصدق.
ولعلّ هذه الثقافة نفسها هي التي تمدّدت في سلوكنا الجمعي، حتى صرنا نرى أثرها في كل المستويات، من علاقات الأسرة إلى ميادين السياسة، إلى أن وصلنا إلى (الهمبتة) الكبرى في الحرب العبثية (السودانية السودانية). وهي حرب لا ينبغي أن نخدع أنفسنا بشأنها، فليست حرب عشرات الدول علينا كما يُروج البعض، بل هي حربنا نحن ضدّ أنفسنا. نحن الذين نحارب بعضنا، ونحن الذين نستعين ببعض غيرنا على بعضنا. فكيف نصرّ إذاً على تسميتها حرب غيرنا علينا؟؟؟ هذه أكبر الأكاذيب!!، لأننا مهما كانت الأيادي الخارجية موجودة نحن الذين فتحنا لها الباب، ونحن الخطأ الأول قبل غيرنا.
لقد أظهرت وسائط التواصل الاجتماعي كثيراً من السوء الاجتماعي الكامن فينا، حتى تحول التواصل الاجتماعي إلى تناحر اجتماعي، لا سيما وأن هذه الوسائط كانت من الأسباب التي أججت الخلافات قبل الحرب وأسهمت في استمرارها بعد اندلاعها.
و قد يبدو للناظر من الخارج أن السودانيين يمتازون بدرجة عالية من التكاتف الاجتماعي، من خلال المظاهر التي نريرونها في التواصل والمناسبات والأسر الممتدة، لكن هذا الانطباع ليس صحيحاً في عمقه، فله وجه آخر أكثر تعقيدًا.
لو تأملنا الآن قروبات الأسر الممتدة، لوجدنا كماً هائلاً من الخلافات التي تصل حد الكراهية والقطيعة. بل إننا نرى حتى على مستوى الإخوة خلافات عميقة لا تجد تفسيراً إلا في تراكم عللٍ نفسية واجتماعية تحتاج إلى دراسة متأنية. ولنا أن نلاحظ بعض قروبات الأسر مثلاً قروب (أسرة إكس الممتدة) قد ينقسم بسبب خلاف بسيط، كعدم ضم أحدهم (مستر زد) للقروب، فيقوم هذا الأخير بتكوين قروبٍ جديد يضم كل أفراد القروب الأول مع استثناءات ويسمّيه (أسرة إكس الممتدة الأصل)، وهكذا تبدأ الانفصالات في دوامةٍ متكررة لا تنتهي.
أو تعالي (مستر واي) و رفضه الانضمام لقروب الاسرة او خروجه بعد أن ضموه بحجة واهية:
(دا شغل أولاد ما عندهم موضوع) مما يخلق بونا شاسعا بين الأجيال وترفع بعضهم على بعض، وهذا المشهد الصغير ليس بعيداً عن المشهد الكبير في وطننا، فذات النهج الذي اتبعه أفراد الأسر في تشتيت قروباتهم هو نفسه الذي استخدمه خبثاء السياسة ومتسلقوها في تشتيت الأحزاب، وتسليح المليشيات القبلية والعنصرية، وحثها على القتال ودعمها وكل حزب يخرج منه أحزابا، وكل مليشيا تخرج من صلبها مليشيات، فمخطئٌ من يظن أن أسباب الحرب هي (الإطاري) أو (السفه الانتحاري) لااااااا ..
بل هي أعمق من ذلك بكثير، إنها حرب خرجت من جوف النفوس الممزقة، من شتات الوجدان السوداني، ومن ازدواجية المعايير التي نحيا بها يوميًا دون وعي أو مراجعة.
هي حرب (جوة الجوة)، آتية من الداخل لا من الخارج، من ثقافة تراكمت فيها التناقضات حتى انفجرت على شكل سلاح ودم ودمار. وما لم نعترف بذلك ونقر به مع محاولات الإصلاح دون وصايا فلن نبرأ، فإعادة بناء الإنسان السوداني مهمة شاقة وطويلة، تحتاج سنوات من العمل الجاد والمخلص. وإعادة الإعمار التي يتشدقون بها الآن حتي قبل إنهاء الحرب لا تبدأ بإعادة إعمار ما تهدّم من الطوب والحجر، بل بإعادة ترميم ما تهدّم في النفوس والعقول والقيم والأخلاق.
ويحضرني هنا قوله تعالى في الآية الكريمة التي نقتطف منها (وسطها) ونترك أولها وآخرها (وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ. ) بينما الآية في أصلها تتحدث عن القتال الذي يُكره عليه الناس و يكرهونه ، وتختم بأن علم الله أوسع من علمنا، إذ يقول سبحانه:
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
ولعل في هذه الحرب التي نكرهها خيراً خفياً لا نعلمه، وخلاصاً لم نكن لنبلغه دون أن نُصاب بوجع الحقيقة. نسأل الله تعالى أن تكون نهاية هذه الحرب قريبة جداً وتحمل سلاماً ونماءً، وتبدّلاً من حالٍ إلى حالٍ أحسن مما كنا عليه، وخيراً قادماً لا علم لنا به، ولكن الله يعلمه…
أوقفوا هذه الحرب وخذوا العظة مما مرت به البلاد.

هشام احمد المصطفي(ابوهيام ) رئيس التحرير

من أبرز المنصات الإلكترونية المخصصة لنقل الأخبار وتقديم المحتوى الإعلامي المتنوع والشامل. تهدف هذه المنصة إلى توفير الأخبار الدقيقة والموثوقة للقراء في جميع أنحاء العالم العربي من خلال استخدام التكنولوجيا الحديثة والأساليب المبتكرة في عرض الأخبار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى