
العنوان للوهلة الأولى قد يبدو غامضًا، لكنه في جوهره دعوة لإعادة بناء (اللغة) أو اللهجة واللسان السوداني كي تعود الحياة للحب والنماء لا للقتل و الموت والدمار ..
فحين يتحوّل الغناء إلى صراخ، والحماس إلى عنف، والمفردة إلى رصاصة، فإن الخلل لم يكن في الناس وحدهم بل في اللغة المصنوعة دارجة كانت أو فصيحة والتي أُفرغت من معناها الطيب وأُعيدت تعبئتها بالكراهية و شحنها بالبغضاء والقتل وضرورة دماء (البل) في الأغاني الحماسية التي رافقت الحروب الأخيرة، تكررت عبارات مثل:
فتك متك تتك وابنص البيان بالعمل شعارنا “بل” بس
من الموت ما بنندس تبدو هذه الجمل مثقلة بالحركة والإيقاع، لكنها تُثير فينا نزعة الحرب و القتال لا نزعة الحب والحياة…
ومن عجائب وفظائع تلك الاغاني انها تقول بل و تؤكد ان الرفض للموت والقتال نقصان في العقل :
(البيابي الموت يبقى عقلو نقص)
ما هذا العبث الذي تبع الحرب العبثية…….
و(دا ما موضوعنا).. ولا نطلب الموت لنا أو للآخرين و دعوتنا للسلم لا تنفطع ودعوات القتال وأن كانت على حق فهي (كُره) كما جاء بالقرآن.. فهو أمر تاباه النفس السليمة ألا إضطراراً …
المفارقة أن مفردات( فتك ومتك وهتك) ليست وليدة ساحات الحرب، بل قديمة في استخدامها الدارجي وبمعانٍ عاطفية والفتك والمتك المعنوي.. وردت في أغنية من اغاني الحقيبة للعبادي تعبر عن الالام المعنوية يقول فيها:
مرة تهذي تقول الحيالك
كالنسيم اليتّم عيالك
قاسي (فاتك هاتك)
يا لك من مرائي وصدقك قليل
فما يحدث الآن ما هو إلا (هذيان) عنيف.. والأخيرة هذه (يا لك من مرائي وصدقك قليل) تمثل الواقع و الأكاذيب و الحقيقة أن الصدق في هذه الحرب منعدم تماماً و ليته كان (قليلاً فقط)
وهذا يقودنا الى التناقض تجاه المفاهيم التي تحملها المفردات مما ساهم في خلق وجدان مضطرب.. فمفردة (البل) في كل معانيها تقود للإنتاج وإعمار الأرض لكنها بفعل قبيح مقصود حمّلوها ما لا تحتمِّل وخرجت عن مقاصدها لتحمل معاني القتل والدمار واستمرارهما…
وهكذا نكتشف أن ما بدأ غناءً للحب والالم المعنوي انتهى نشيدًا للحرب والالم المادي الماثل امامنا بمنتهي الآسي ….
فقد سرقوا مفردات الوجد لنغني بها للفتك، والهتك والمتك وحوّلنا الفعل الجميل إلى شعار للدم.
لكن دعونا نعيد النظر في جذور هذه الكلمات.
ففي اللهجة السودانية، يتحول حرف القاف أحيانًا إلى كاف.
فـربما (فتك) هي في أصلها (فتق)، و(متك) يمكن أن تكون (متق) والفتق يحتاج اللتك و(لتك) أو (لتق) تقابلها (رتق) بالعربية الفصحى.
أما (متق) مثلاً من المفردات السودانية التي تصف عملية قص جزء من النبات وترك الباقي للنمو كما يحدث مع القصب والذرة والكلمة سودانية عتيقة ربما لها أصل غير عربي…
وقد وردت في أغنية عثمان اليمني وهو يتحسر على (الوليد المطيلق):
(وآ خسارة عيشنا ما اكلوا الجراد والحكمة “متيّق”)
و تعني أن الزرع لم ينضج بعد… وهو يصف (ولدهم) الذي أبتعثوه للتعليم وصرفوا عليه من عرقهم كي يلحقهم في (الضيق) لكنه اضحى في بلد (التُرك) وليداً (مطيليق) أو كما جاء بالأغنية..
أظن اننا في فعلاً بحاجة ( للبل) الحقيقي (البل) المنتج كي (يبتّق) السودان القادم..
و مفردة (بتّق) عند اهل الزراعة بالسودان تعني بداية النمو للزرع في (العُقل) المغروسة بالأرض أو لحظة انشقاق البذرة عن حياة لحياة جديدة.. و(البل) سوف يخضر أرض السودان بديلاً للبل الأحمر القاني …
وبلادنا الآن في حاجة ماسة (للتق) فقد (تفتقت) إلى أجزاء، الم يقل المغني :
كل أجزائه لنا وطن
إذ نباهي به ونفتتن
نتغنى بحسنه أبدا دونه لا يروقنا حسن
حيث كنا حدت بنا ذكر ملؤها الشوق كلنا شجن. نتملى جماله لنرى هل لترفيه عيشه ثمن
أ لم تكن تلك اغنياتنا اذن لا بد من (لتق ما انفتق)
و(لتق) تقابلها بالفصحى (رتق)، أي أصلح وأعاد الجمع بعد الفتق.. يقول الله تعالي :
(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)
تأملوا الفتق هنا فتق رباني للحياة والاعمار..
إذن فالأصل في هذه المفردات فعل إيجابي، مرتبط بالخلق والزرع والنماء، لا بالدمار والقتل.
لكننا قلبنا المعاني، فصار الفتق (فتك) وحربًا، والرتق غنيمة، والزرع رمادًا.
ومن هنا، يصبح معنى العنوان (بتّق و لتّق يكون الرّص) دعوة لوعي جديد أن نحول فتق الحرب وفتكها إلى رتق السلام، وأن نكفّ عن استخدام اللغة كسلاح ذخيرته قاتلة للمعاني بل نعيد إليها خصوبتها الأولى.
أن نبلّ الزرع كي (يبتق)، لا أن نبلّ الأرض بالدم ونبتكن أجزاء البلاد فالوطن اليوم بحاجة إلى (رتق) الجراح لا (فتقها)، إلى أن نعيد للهجة السودانية وجدانها الإنساني الخصب.
قبل أن نُدفن جميعًا تحت ركام الكلمات التي أطلقناها دون أن نعي فتقها من رتقها، وندوس بالعمي (علي ابنص) المقاتلات الحربية …
لا للحرب …



